بینات

تآریخ النشر: 21:04 - 2017 February 28
الغوص في الأمور الغيبية والماورائية يستدعي فطرة أخرى غير الفطرة الساذجة التي يحملها جميع النّاس. وذلك لأنَّ الغيبَ لا يُمسُّ بالحسّ ولا يُلمَسُ بالعقل في كثيرٍ من جزئياته، والسرّ في ذلك أنَّ الإنسان نوع وجود مندكٌ في المادة، فمجرد أن يستحظِرَ مفردةً من مفردات الغيب يسعى فوراً إلى تجسيدها على مستوى خياله. وهذا ما يفسِّر أنَّ كثيراً من المتدينين يعتقدون بإله مجسّد ومادي تحكمه قوانين المادة، وأنّه في السماء وما أشبه ذلك من العقائد التجسيدية التي نفخ في بوقها اليهود أكثر من غيرهم...
رمز الخبر: 26

الغوص في الأمور الغيبية والماورائية يستدعي فطرة أخرى غير الفطرة الساذجة التي يحملها جميع النّاس. وذلك لأنَّ الغيبَ لا يُمسُّ بالحسّ ولا يُلمَسُ بالعقل في كثيرٍ من جزئياته، والسرّ في ذلك أنَّ الإنسان نوع وجود مندكٌ في المادة، فمجرد أن يستحظِرَ مفردةً من مفردات الغيب يسعى فوراً إلى تجسيدها على مستوى خياله. وهذا ما يفسِّر أنَّ كثيراً من المتدينين يعتقدون بإله مجسّد ومادي تحكمه قوانين المادة، وأنّه في السماء وما أشبه ذلك من العقائد التجسيدية التي نفخ في بوقها اليهود أكثر من غيرهم.

في هذه الكلمة المختصرة أحدِّثكم عن موضوعٍ جميل نفتتحه بهذا السؤال: كيف تجلَّى الغيب في عالم الشهادة؟ وبعبارة ثانية: كيف تمّت العلاقة بين عالم الغيب العالم الذي يحتل الله تعالى فيه المرتبة الراقية والرفيعة بحيث لا يرقى إلى جماله الذاتي موجود من الموجودات حتى الأنبياء.. و بين عالم الشهادة العالم الذي يتواجد فيه الإنسان؟

قد يجيب البعض: الفطرة الإنسانية هندست في العلم الإلهي الأزلي تعرف الغيب وتحّن إليه؟

أقول: جوابٌ يركِّز – بقول الفلاسفة – على العلة القابلية أي أنَّ الإنسان غُرِسَ في حقيقته قبول الغيب والتفاعل معه. وهذا صحيح تمام الصحة، لكنَّ الكلامَ عن الغيب كيف تفتّق واتصل بعالم الشهادة حتى تقرّ به هذه الفطرة الجميلة في عالم التفصيل؟

في الإلهيات الإسلامية - وحتى عند القديس الأغطسي الجزائري- أنَّ الله تعالى تعيّن بحكمته البالغة وتجلَّى بلطفه وأرسل الأنبياء، وبغير هذا الطريق لا يمكن فهم عالم الغيب بتفاصيله الجميلة والبهية. وبمجرد أن يتعيّن الله تعالى باللّطف يتجلَّى هذا اللّطف بمصاديقه المتعددة التي منها الأنبياء.

وإذا قلنا الأنبياء معناه أنَّ الله تعالى تعيّن بدينٍ وضعي أو بتعاليم وحيانية تأتي بجملة من المعارف ترّحب بها الفطرة الساذجة في ساحة قدسها، ويسجد لها العقل في محراب فهمه، ويستذوقها القلب في معبد جماله.

تسأل: من يدرينا أنَّ هذا النبي المتعيّن في الزمكان الخاص متصلٌ بالغيب حقيقة؟

الجواب: سؤالٌ وجيه جداً، ومعقولٌ تمام المعقولية. غير أنَّ الله تعالى حينما تعيّن بالحكمة البالغة لا يترك الإنسانَ في حيرة من أمره، بل أعطى لهذا النبي مفردةً قدسيةً تشخّصه وتميّزه عن المتنبي، وتجعل العقل يقرّ باتصاله بمعدن العظمة ومنبع القدس. هذه المفردة هي المعجزة، وما أجمل المعجزة وأروعها إذا كانت خالدة في هويتها ليست مقطعية زائلة بزوال شخص النبيّ القدسي. وهذا حال القرآن الكريم، ذلك الكتاب المعجِز الذي حيّر العقل سرمدياً بجمال معانيه التي لا يرقى إليه شيءٌ من الأشياء، وذوّب الخيال العاشق للجمال الأدبي بجمال نظمه وعذوبة ألفاظه، وجذب القلب العاشق لك ما هو فطري إلهي جذبه إلى عظمته التي هي مجلى عظمة صانعه ومهندسه.

وإذا سألتني عن حقيقة المعجزة التي هُزّت هزاً بإشكالات هيوم وغير هيوم في العصر الحديث.

أقول لك: دع هذه المسألة لفرصة أخرى لعمق المسألة وخطورتها، وليطمئن قلبك الشريف أنَّ هيوم وغير هيوم لا يمكن لهم أن يهزوا جذع المعجزة حتى و إن كان الجن لهم ظهيرا.

إذاً، العلاقة بين أفق الغيب وأفق الشهادة هي النبوّة، ولا طريق غير هذا الطريق. ومن يدّعي أنَّ هناك طريقاً ينبيء عن تفاصيل هذا العالم النوراني الواسع النور والجميل الواسع الجمال والبهي الواسع البهاء، فهو كاذب لا يعرف ما معنى الغيب ولا يفقه معنى الماوراء. وهذا ما يفسّر قوله تعالى في بداية سورة بالبقرة: { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ( 2 ) الذين يؤمنون بالغيب...}، فقد جعل الله تعالى الغيب مقولة إيمانية يتعامل معها القلب بحسّه الغيبي القدسي.

تسأل مجدداً: ما هو دور العقل؟

أقول لك: العقل عندي معيار يضبِط الفهم حتى ينسجم تمام الانسجام مع التكوين، وهذا ما يسمى بالحقيقة. وعند غيري هو ملكة تستنبط المعارف في دائرة الكليات، ولا شأن له بالجزئيات التي يكشفها الوحي ويعرّيها للنّاس حتى يسيروا وفق نورها وبهائها في قوس التكامل والعروج. فالصلاة مقولة وحيانية لا شأن للعقل بها ولا يمكن له أن يمسّها فهماً، وإذا سألت العقل: ما شأن الصلاة؟ يقول لك: أن أدرِك ضرورة الصراط، أما كيفية الصراط فهذا خارج عن دائرتي، هذا للوحي. وهكذا في كثيرٍ من مفردات الغيب لا تكشف لنا إلاَّ إذا تعيّن الله تعالى بحكمته البالغة المتمثلة بالأنبياء.

وبالتالي الآلية القدسية التي تربط أفق الغيب بأفق الشهادة هي الحكمة الإلهية البالغة، وفيما تتجلّى هذه الحكمة؟ في اللّطف الإلهي المتمثل بالأنبياء الإلهيين.

إذا سألتني: لماذا تعيّن الله تعالى بهذه الحكمة البالغة المتمثلة باللّطف الظاهر بالأنبياء؟

أقول: يجب أن تهندس الحكمة الإلهية الأسوة (الأنبياء) التي نقتدي بها، وحتى نعرف الله تعالى بجماله وجلاله، بالجمال للجذب نحو البهاء، وهذا رجاء، وبجلاله للابتعاد عن الخواء، وهذا خوف. وهذا سرّ العدل والاعتدال، وبهذا يرقى الإنسان ويشارك الله تعالى في أسمائه الحسنى، ويتحلّى بهذا البهاء السرمدي: عيشة راضية، حياة طيبة، و رضوان من الله تعالى.

وغير هذا سفهٌ خطلٌ حمقٌ وغباء .

دمتم في الغيب وانتم في الشهادة، لأنَّ جمال الغيب يرسم بريشة أفق الشهادة .

بقلم فضيل الجزائري


تعلیقات المشاهدین
الاسم:
البرید الإلکتروني:
* رای: