بینات

تآریخ النشر: 21:23 - 2017 April 10
طلب مني من أعزّه من الطلاب والأصدقاء أن أكتب عن موضوعات الدين. وهذا الأمر جميل في غاية الجمال، وبهي غاية البهاء؛ وآية ذلك أنَّ موضوعات الدين تنعش الفطرة الصافية وتهز الوجدان الحي، على خلاف الفلسفة التي تمسّ المفاهيم العامة الصارمة، وتنعش العقل وتحرك الفهم.
رمز الخبر: 29



طلب مني من أعزّه من الطلاب والأصدقاء أن أكتب عن موضوعات الدين. وهذا الأمر جميل في غاية الجمال، وبهي غاية البهاء؛ وآية ذلك أنَّ موضوعات الدين تنعش الفطرة الصافية وتهز الوجدان الحي، على خلاف الفلسفة التي تمسّ المفاهيم العامة الصارمة، وتنعش العقل وتحرك الفهم. كلا المجالين جميل: الدين ضروري للإنسان الذي هندس في العناية الإلهية متألهاً، لا يمكن أن تتعيّن هويّـته وحقيقته إلاَّ في إطار الدين. والفلسفة ضرورية للإنسان الذي هندس في الحكمة الإلهية يُبْصِر حقائقَ الأشياء بعقله أكثر ما يبصرها بحواسه. الدين حياة، والفلسفة تنوير، فإذا اجتمعا في شخصٍ فقد امتزجا فيه رافدان:

1. رافد التنوير الذي يمثل انسجام العقل مع الوجود، و2. رافد الحياة الذي يمثل إنسجام الوجدان مع الحقيقة الدينية، حينها يعيش الإنسان الفضيلة الإنسانية والفضيلة الدينية مجتمعتين، ما يؤدي به إلى تمام السعادة الإلهية وتمام العيشة الراضية.

لكن قبل الشروع في الكلام عن موضوعات الدين وتحليل الآية المباركة، أشير إلى مسألة في غاية الأهمية في المعرفة الدينية. المسألة هي يجب أن ننظِّر للعقلانية الدينية. نسأل: ما هي العقلانية الدينية؟ العقلانية الدينية تتمثل في إعمال المعايير العقلية - التي تتسم بالحجية المطلقة - في مجال النصوص الوحيانية. على معنى أن نأتي إلى النص الوحياني ونحلّله ونركبّه بتوظيفنا لمعايير العقل الكلية التي تستخدم في الحقول المعرفية كافة. من حقك أن تقول: هذا ما تفعله الفلسفة الإلهية و علم الكلام (علم العقائد)؟ أجيبك قائلاً: ما تفعله الفلسفة الإلهية أو علم الكلام هو أنّها تنظِّر لقواعد فلسفية أو قواعد كلامية في مجالها الخاص، ثم تأتي وتحلل النص الديني على ضوء هذه القواعد، فيما تتمثل وظيفة العقلانية الدينية في إعمال المعايير العقلية في دائرة النصوص نفسها. والفارق واضح بين الأمرين.

مثال ذلك: تنظِّر الفلسفة الإلهية لهذه القاعدة الفلسفة الرائعة والجميلة: (بسيطة الحقيقة كل الأشياء كمالاً ودونها نقصاً). هذه القاعدة وصل إليها الفيلسوف في مجاله المعرفي (الميتافيزيقا أو الأنطولوجيا) بإعماله للمعايير العقلية في نسقه المعرفي الخاص بعيداً عن معطيات الدين الوحيانية، ثم يأتي يستثمر هذه القاعدة في مجال الدين مستخرجاً منها كنوزاً تتصل بالمعرفة الدينية. وهذا لا غبار عليه في مجال المعرفة، فمن حق العقل الفلسفي مقاربة النص الديني وفق قواعده الخاصة، لكن يبقى ما وصل إليه من نتائج - وإن كان جميلة ورائعة – فلسفة إلهية، ليس ما قاله الدين في مجاله الخاص. فهذه القاعدة الفلسفية الرائعة تعني أنَّ الحقيقة – أية حقيقة كانت – إذا كانت خالصة ليست مشوبة بأمر خارج عن حقيقتها فهي تمثل تمام الحقيقة. مثلاّ: إذا ذهبت تشتري العسل تسأل البائع: هل هذا العسل صاف وخالص؟ يجيبك بأخلاص تام: خالصٌ غير مشوب. فتفهم من هذا الكلام: أنك أمام عسل تام في عسليته لا ينقصه شيءٌ في حقيقته. ثم إذا جئنا إلى تطبيق هذه القاعدة على الله تعالى، نقول: الله تعالى غير مركب من أي شيء وخالص في حقيقته، لا يتصور أن يفتقد أىَّ كمالٍ مهما كانت نوعية هذا الكمال، وكل كمال موجود في شيء من الأشياء فهو موجودة في الله تعالى بنحو أعلى وأشرف. مثلاً: العلم ككمال إذا اتصف به الإنسان فالقاعدة تفتي أنَّ العلم بوصفه كمالاً موجود في الله تعالى بنحو أعلى وأشرف من وجوده في الإنسان. والتحليل يصدق على جميع الكمالات المتصورة. أما الأمور التي تتميّز بالنقص فالقاعدة تنفيها عن الساحة الإلهية المقدسة، فلا يمكن لله تعالى أن يتصف بالجسمية، لأن الجسمة نقص يلازمها الاحتياج إلى المكان والزمان، والله تعالى يتبرأ من هاتين الحيثتين.

أما العقلانية الدينية فإنّها تعني إعمال العقلانية - التي وظّفها الفيلسوف في مجاله المعرفي الخاص به – في مجال النصوص الوحيانية فقط من دون أدخال قاعدة من خارج النص الديني. مثلاً: إذا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، نأتي إلى معايير العقل فقط ونستخرج المطالب التي تتضمنها الآية المباركة. إذا نعت الله تعالى الإنسان بالفقر نستخرج بالعقل أنَّ هوية هذا الموجود محتاجة في صميم هويتها، فإذا استقلت بذاتها فمصيرها الهلاك. وإذا حددت الآية أنَّ الفقر إلى الله تعالى الغني، نستنتج أنَّ هوية الإنسان هوية ملتصقة بالله تعالى في قعر كينونتها، فلا تتصور أن تنفصل عن الله تعالى. وإذا نعتت الآية المباركة الله تعالى أنه غني حميد أي كثير الحمد، نستخرج بالعقل كمعيار أنَّ هوية الإنسان يجب أن تعجن بالحمد أي بالعبادة، و أنَّ هذه العبادة هي التي تنزل عليها حيثيات الغنى التي تقوّم حقيقته، وأنَّه خارج هذه الهوية يعيش الإنسان الضياع والهلاك. هذه الحقائق كلها استخرجت بالعقلانية الدينية ولم نستعين فيها بأية قاعدة فلسفية أو عرفانية.

نأتي الآن إلى إعمال العقلانية الدينية في تحليل وتركيب الآية فوق: جَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا.

أقول: هنا العقلانية الدينية تجد نفسها أمام جملة من المفاهيم ذكرت في الآية المباركة، فيتعيّن عليها أن تتعامل معرفياً مع هذه المفاهيم للوصول إلى المعنى الذي يريده الله تعالى، ويجب أن يكون هذا المعنى منسجماً مع جميع مقتضيات النسق الديني العام.

نبدأ التحليل:
1. جَاءَ رَبُّكَ: هنا استخدمت الآية مفهوم (المجيء) صراحة ونعتت به الله تعالى بوصفه رباً. وهو مفهوم ينطبق على الواقعيات المادية؛ لأنّه حركة التي تمثل خاصية جمسية. هنا حلان: 1. إما أن نسكت ولا نفهم، و نتعبد بالنصوص، وهذا الاتجاه تمثله السلفية، وهو مرفوض جملة وتفصيلاً، لأنّه يؤدي إلى تعطيل العقل الذي جعله الله تعالى حجة في دائرته. 2. تفعيل العقل وإعطائه كل المجال للإدلاء بدلوه. العقل يقول: إنَّ الإلتزام بهذه الصفة (المجيء) يؤدي إلى خرق أصل ديني أساسي هو (ليس كمثله شيء). نسأل العقل: ما هو الحل؟ يقول: أنا معيار لا أعطي الحلول، وظِّفني جيداً تصل لا محالة إلى حلٍ يناسب مقتضيات الدين وتعاليمه الأساسية. إذا فيه حركة يتصف بها الله كربٍ.

2. وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا: هنا تؤسس الآية المباركة لمفهوم آخر هو اصطفاف الملائكة، ما يعطيها حيثية مادية؛ لأنَّ الصف نظم لا يتصور إلاَّ في الماديات لتحقيق غاية ما.

هنا نسأل: المشهد الذي تصنعه الآية المباركة من خلال المفهومين (مجيء الرب واصطفاف الملائكة) مشهدٌ مادي بامتياز. نسأل: هل هذا ينسجم مع أصول الدين الأساسية؟ الجواب: لا بالقطع واليقين. فما هو الحل؟

الحل أن نفعَّل العقل في معاييره الجميلة. نقول: الرب هو الملك المدبِّر، أي يملك الخلق ويدبرهم: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}، إعطاء الخلق هو إيجاد الموجودات الخاضعة لملكيته المطلقة، بحيث لا يفلت مخلوقٌ من سلطانه تعالى، ثم هدى أي يدبِّرها ويربِّيها حتى تصل إلى غايتها التي هندستها لها العناية الإلهية. هنا نسأل: متى الملك يدبر مملكته؟ الجواب: إذا جلس على عرش التدبير، وإذا حفّه الوزراء والحرس والجنود. هذه الأبهة الملكية رمزٌ لهيمنة الملك وقوة سلطانه، بحيث لا يمكن أن يفلت من سلطانه شيءٌ من الأشياء. فالآية تصنع هذا المشهد الذي سيحدث يوم القيامة، ويعيشه المؤمن والكافر. هذا الصنع لا علاقة له بالواقع، وإنما هو صنع مفاهيمي حتى يتصورَ الإنسانُ هولَ الحساب والعقاب: مجيء الرب إلى عرشه ومجلى سلطتنه إشارة مفهومية إلى الأبهة الإلهية يوم الحساب، لأنَّ الأبهة والعظمة تغرس في ذهنك أيها الإنسان إذا دخل الرب بعظمته وجلاله إلى العرش ومن يحفه من الوزراء والحنود والحرس، فلا يتقدم النّاس، بل يكون هو آخر واحد من يجيء إلى مجلس التدبير (عرش الحساب والعقاب). ثم تشير الآية إلى حالة يكون عليها الملائكة: صَفًّا صَفًّا. هنا تصنع الآية المباركة مفهوماً ليس له علاقة بالواقعة، وإنما يشير إلى أنَّ هذه الهيمنة والسلطنة تامة كاملة لا يمكن لأي مخلوق أن يفلت من قبضتها. فالملائكة بهذا الوصف رمزٌ إلى عظمة الله وجلاله يوم القيامة. هذا الصنع المفهومي المادي في ذهنك الشريف حتى يوصل إليك هذا المعنى الواقعي: إنَّ العدالة الإلهية يوم القيامة ويوم الدين تامة لا يمكن أن يفلت من قبضتها موجود من الموجودات. فصنع المفاهيم المادية تتصل بذهنك و فهمك، ولا علاقة له بالواقع الخارجي: فلا مجيء لله تعالى، ولا اصطفاف للملائكة. بل هذا المشهد المادي صنع في ذهنك حتى تفهم هذا المعنى الواقعي أنَّ الهيمنة الإلهية التي تتجلى بروبيته تعالى يوم الحساب لا يمكن أن يفلت من قبضتها مخولق من المخلوقات، لا حد لجلاله تعالى، ولا عظمة فوق عظمته تعالى.

المعنى التداولي هو إذا كان المشهد الربوبي يوم الدين و يوم الحساب بهذه الكيفية، ففكر أيّها الإنسان في هذا اليوم وهذا الهول العظيم، وأحسب لعقيدتك كل حساب، وتأمل في أفعالك كل التأمل؛ لأنّك ستكون حاضراً في هذا المشهد بين يدي عدالة الرب المطلقة، ولا معين ولا حيلة لك هناك.

هذا تحليل الآية وتركيبها، والعالم هو الله تعالى ..

فضيل الجزائري

تعلیقات المشاهدین
الاسم:
البرید الإلکتروني:
* رای: