بینات

تآریخ النشر: 21:23 - 2017 April 29
نسعى – إن شاء الله تعالى – في هذه السلسلة من الحلقات إلى معالجة عبارات نهج البلاغة الشريف تحليلاً وتركيباً في شكل حوارات بين بلقيس الذكية والحكيم الرائع والألمعي، حتى نحيطَ إلى حدٍ ما بكنوزِ النهج الشريف ودُرَرِه. وفي هذا الحوار، تثير بلقيس جملة من الأسئلة بغية تحريك مكنون الحكيم المعرفي حتى تقارب معه عبارة قدسية من نهج البلاغة نهج الجمال والبهاء. والعبارة القدسية هي قوله (عليه السلام): (وشدَّ بالإخلاصِ والتوحيد حقوقَ المسلمينَ في مَعَاقِدِها). لنتابع الحوار في منعرجاته الجميلة والراقية علَّنا نرقى في الفهم والمعنويات.
رمز الخبر: 58

الحلقة الأولى

وشدَّ بالإخلاصِ والتوحيد حقوقَ المسلمينَ في مَعَاقِدِها

نهج البلاغة، الخطبة 167

نسعى – إن شاء الله تعالى – في هذه السلسلة من الحلقات إلى معالجة عبارات نهج البلاغة الشريف تحليلاً وتركيباً في شكل حوارات بين بلقيس الذكية والحكيم الرائع والألمعي، حتى نحيطَ إلى حدٍ ما بكنوزِ النهج الشريف ودُرَرِه. وفي هذا الحوار، تثير بلقيس جملة من الأسئلة بغية تحريك مكنون الحكيم المعرفي حتى تقارب معه عبارة قدسية من نهج البلاغة نهج الجمال والبهاء. والعبارة القدسية هي قوله (عليه السلام): (وشدَّ بالإخلاصِ والتوحيد حقوقَ المسلمينَ في مَعَاقِدِها). لنتابع الحوار في منعرجاته الجميلة والراقية علَّنا نرقى في الفهم والمعنويات.

1. بلقيس: سيدي الحكيم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أهلاً بكم مرة أخرى معنا في هذا الحوار الذي نأمل أن يكون شيّقاً وراقياً. أريد من سماحتكم أن تبيِّنوا لنا أسرارَ هذه العبارة العلوية القدسية:

وشدَّ بالإخلاصِ والتوحيد حقوقَ المسلمينَ في مَعَاقِدِها.
نهج البلاغة، الخطبة 167

2. الحكيم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. أحسنتِ التذوّق و وُفقتِ في الاختيار، وذلك أنَّ النَهْجَ الشريف ينطوي على حكمة راقية وسامية تَرجِع في حقيقتها إلى معدنِها الطاهر والقدسي هو الحكمة الإلهية البالغة. والعبارة الشريفة تنطوي على كنوزٍ معرفية ومعيارية نحاول أن نميط اللِّثام عنها حتى نصلَ إلى معدنها القدسي والجميل.

3. بلقيس: سيدي الحكيم، لنبدأ الحوار بهذا السؤال: ما هي المفردة الأساسية التي تتناولها العبارة الشريفة؟

4. الحكيم: جميل، إذا تأملت جيداً في العبارة الشريفة تتوضّح لك المفردة جليّة بيّنة. أليس ذكرت الحقوق؟ ماذا تعني الحقوق؟ أليس قوى في الإنسان تؤهله لأن ينال كمالاً ما؟ مثلاً: إذا كان من حقك أن تَصِلي إلى معلومة ما، فمن حقك علينا أن نصدق في ايصال المعلومة إليك، ويتعيّن علينا عدم الكذب في نقلها إليك.

7. بلقيس: نعم سيدي، لكن كيف أعرف أنَّ لغيري في ذمتي حقاً ما؟

8. الحكيم: سؤال جميل، تعرفين ذلك من خلال جملة من القوانين، وهذه القوانين على قسمين: الأول جاءت به الشريعة التي تمثل الوحي المنزل، والثاني أودعه الله تعالى في حقيقة الإنسان لا يحتاج في إدراكه والوعي به إلى تدخل الوحي.

9. بلقيس: وبالتالي، فإنَّ الحقوق على قسمين: 1. حقوق وحيانية تتجلّى في الشريعة منطق الوجوب والحرمة، و2. حقوق طبيعية تتجلّى في قوانين تمثل منطق الحسن والقبح.

10. الحكيم: بالضبط، فإذا تكلمنا بمنطق الوحي نقول: الواجب والحرام، وإذا تكلمنا بمنطق القوانين الطبيعية نقول: (الحُسن والقبح) أو (الخير والشرّ).

11. بلقيس: راقٍ جداً، ما يدفعنا – سيدي – إلى إثارة جملة من الأسئلة: منها: ما هو الحسن والقبح، وما هو الحلال والحرام على ضوء هذا البيان العلوي الراقي؟

12. الحكيم: جميل، في طيات تحليلنا لهذا الكلام النوراني يتوّضح لنا كلُّ هاته المفردات. العبارة النورانية جاءت بكلمةٍ جميلة: في معاقدِها. فنسأل: ما معنى المعاقد؟ نقول: المعاقد هي القوانين بشقيها الوحياني والطبيعي. مثالُ الوحياني: (الصلاة واجبة)، ومثال الطبيعي: (الصدق واجب)، وهكذا دواليك. فقد شدّ (ربط) الله تعالى - الحكيم بالحكمة الإلهية البالغة - بين الصلاة بوصفها طبيعة اختراعية والوجوب بوصفه تكليفاً يحرك الإنسان بنحو الضرورة، وشدّ (ربط) بين الصدق بوصفه معياراً والوجوب بوصفه تكليفاً يرسل الإنسان بنحو الضرورة.

13. بلقيس: سؤال خطير سيدي: ما هي مناشيء (أصول) الصلاة والصدق؟

14. الحكيم: هنا مربط الفرس، فإنّنا إذا أدركنا بطريقة أحسن الأجوبة عن هذا السؤال، يتجلّى لنا بيسرٍ مغزى البيان العلوي. جلّي، أنَّ الصلاة تمثِّل قانوناً تشريعياً، وأنَّ الصدق يمثل قانوناً أخلاقياً، فما هو الأصل الذي نشأ منه القانونان؟ أقول في الإجابة: إنَّ الله تعالى ينطوي على كلِّ الكمال، وكلِّ الجمال، وكلِّ البهاء بشكل لا يتناهى، أيّ واسع العلم واسع الحكمة واسع الحياة واسع الحب و... هذه العناوين تندرج تحت عنوان خطير ومهم هو (الخير). فأراد الله تعالى أنَّ يشاركه الإنسان في هذا الخير، فيجب أنَّ يتجلى هذا الخير الواقعي في شكل قوانين معيارية تحرِّك الإنسان نحو هذا الخير، فكانت القوانين التشريعية والقوانين الطبيعية.

15. بلقيس: جيمل وخارق سيدي، فما فهمته من بيانكم النوراني هو أنَّ القوانينَ مجردُ إعتبار تنظيمي حتى يتحرك الإنسانُ نحو هذا الخير الذي يرجع في أصله إلى معدن الجمال والبهاء والحب: الله تعالى.

16. الحكيم: نعم، فالخير الواقعي صار في شكل قوانين تشريعية أصلها الوحي، وقوانين طبيعية أصلها - من حيث الإنسان – هو الفطرة الإلهية الثابتة، و أصلها -من حيث الله تعالى – حكمته البالغة، وأصل الأصل هو الكمال الإلهي اللامتناهي.

17. بلقيس: نفهم من بيانكم الجميل سيدي، أنَّ جميع المعاقد منشأه هو الخير الإلهي الذي هو الكمال الإلهي اللامتناهي والواسع. والمعاقد تتنوّع حسب تنوع الموارد.

18. الحكيم: هذه الموارد تقسم إلى أقسام ثلاثة: 1. معاقد تتصل بالله تعالى، تنشأ منها حقوق تتصل بالله تعالى، كوجوب الشكر للمولى، و وجوب الطاعة وما أشبه ذلك، 2. معاقد تتصل بالإنسان في دائرة المجتمع، تنشأ منها حقوف تتصل بالإنسان الذي نعيش معه، كوجوب احترامه للإنسان أرقاها احترام الوالدين، و وجوب أداء الأمانة وما أشبه ذلك، و3. معاقد تتصل بالإنسان في دائرة نفسه، كحرمة الانتحار و وجوب الترقي الروحي والمعرفي وما أشبه ذلك.

19. بلقيس: جميل سيدي، سؤال يخطر بالبال: لماذا ركزّت العبارة العلوية على حقوق المسلمين؟ مع أنَّ هذه المعاقد عامة تطال كل النّاس وكل الحضارات؟

20. الحكيم: جميل جداً، السرّ هو أنَّ هذه المعاقد أناطها الله تعالى بالتوحيد والإخلاص، وهنا يكمن جمال العبارة وروعتها.

21. بلقيس: يعني أنَّ هذه المعاقد تفيد وتثمر في حالة ما إذا كان الإنسان موحداً وفاني الذات في الحق تعالى؟

22. الحكيم: من هنا ننفتح على مسألة خطيرة غاية الخطورة ومهمة غاية الأهمية، هي أنَّ أساس الأخلاق هو الدين، وأساس القوانين هو الدين، والدين يتجّلى في ضلعين أساسيين: 1. الله تعالى الحكيم، و2. الإنسان الموحِّد المخلِص.

23. بلقيس: وعليه، فإننا نسأل سيدي: ما دخل مفردتي التوحيد والإخلاص بهذه المعاقد حتى تتأمّن حقوقُ المسلمين كما جاء في لسان العبارة العلوية الراقية والجميلة.

24. الحكيم: جميل، لنفرض معقداً ما (الصدق واجب)، ثم نحلِله كمعيارٍ أخلاقي. الصدق في الواقع هو خيرٌ أي بهاء إلهي وجمال إلهي وكمال إلهي، هذا الخير تصيغه الحكمة الإلهي كقانون، فيمسي: الصدق واجب، فإذا صدق الإنسان في أقواله وشؤونه كلِها بات الإنسان متلبساً بالخير أي الكمال أي الجمال أي البهاء، حينها يكون الصدق حسنا، فنقول: الصدق حسن.

25. بلقيس: فحسن الصدق يعني أنّ الإنسان إذا صدق تلبس بالخير، وهذا ما يجعل الصدقَ - كفعل إنساني باطني أو ظاهري - حسناً؟

26. الحكيم: نعم، فهذا المعقد: (الصدق حسن) يعني: تلبس أيّها الإنسان بالصدق في أفعالك وشؤونك حتى تنعجن بالخير، فتمسي حينها إلهياً في قلبك أي تعتريك حالة باطنية إلهية كلها جمال وبهاء.

26. بلقيس: التحليل نفسه يجري على (الصلاة واجبة)، ما يعني أنَّ الصلاة في أصلها خير، فمن الحسن لك أيّها الإنسان ان تؤديها حتى تغمرك حالة باطنية إلهية جيمعها جمالٌ وبهاء. وإذا مارست هذه المعاقد فقد يتّسع وجودك كثيراً.

27. الحكيم: هذا الإتساع الوجودي - حسب قولك الجميل – هو الكمال الإلهي، وحيثما كان الكمال الوجودي كانت السعادة الإلهية.

28. بلقيس: يا الله استاذ!! شيءٌ جميلٌ جداً، يعني أنّه لا يمكن أنّ نصل إلى الكمال والسعادة إلاَّ من خلال القوانين التي تحركنا نحو الحسن والخير.

29. الحكيم: نعم، وهذه القوانين مجرد تنظيم على متسوى علاقة الفرد بنفسه، وعلاقته مع المجتمع، وعلاقته مع الله تعالى.

30. بلقيس: جميل جداً سيدي، فنسأل حينها: أين محل التوحيد والإخلاص من الإعراب؟

31. الحكيم: لا يتجلّى لنا هذا الدور جيداً إلاَّ بطرح الأمثلة. ولِنخصّص التحليل بحقوق المسلمين ونترك حقوق الفرد والله تعالى. مثالٌ: (الصدق واجب)، فقد شدّ الله تعالى في هذا المعقد بين التوحيد والإخلاص وحقوق المسلمين في الصدق معهم. لنفرض أننا أمام معلومة إعلامية يجب أن يوصلها الإعلامي كما هي في واقعها لا يزيد ولا ينقص منها شيئاً من عنده، فإذ كان الإعلامي - في هذه الحالة – موحِّداً لله تعالى ويعرف أنَّ التحريف في المعلومة والغش في نقل الأخبار لا يمكن أن يثمر ثماره لأنَ ما أراده الله تعالى وخطط له بربوبيته (التوحيد في الربوبية) هو الذي يقع وهو الذي يثمر، فلا يمكن له أن يقدم على تحريف الوقائع والغش في النقل، بل التوحيد يدفعه نحو أداء هذه الأمانة كما هي ويصدق في نقل المعلومة. وأما فيما يتصل بـ(الإخلاص)، فإنّه إذا كان حظُ الذات منتفياً ولا يريد الدولار والمنصب و الجاح لدى أسياده، فلا يُقْدِم على تحريف المعلومة ولا ينقل الكذب. فحقوق المسلمين لا تتأمّن إلاَّ إذا كان الإنسان موحِداً حق التوحيد؛ بمعنى أنَّه يعتقد في صميم قلبه و وجوده أنَّ ما يدبرّه الله تعالى هو الحق وليس ما يدبره هو وأسباده. نعم، الكذب في النقل قد يمثر ثماره المؤقتة لكن في نهاية المطاف ما يدبره الله تعالى هو الذي يقع وما يدبره أسياده زخرف كلّه وحشف كله يزول سريعاً من دائرة الوجود. وإذا أخلص ولا يريد حظ نفسه في وظيفته حتما سيصدق في نقل المعلومة كما هي لا يزيد ولا ينقص فيها، وقد يكون بهذا الفعل الجميل قد أدى حقوق المسلمين الذين إذا توفر لهم هذا المناخ الصادق في المعلومة سيصلون إلى كمالهم المناسب و يعيشون السعادة في الدنيا والآخرة.

32. بلقيس: وهذا التحليل يصدق على جميع المعاقد أيّ على جميع القنوانين والحقوق؟ جميل جداً سدي. فخلاصة البحث أن الإنسان المتحرك في أفق بهاء التوحيد وجمال الإخلاص، هو الذي يتأتى له تأمين حقوق المسلمين، وغيره يُبْتَلى بحب الذات والأنانية والخضوع لسلطة الذهب والفضة أو قوة العصا.

33. الحكيم: ومن هنا ندرك عظمة الدين في صنع الإنسان وتأمين الحقوق، وبالتالي تأمين السعادة الدنيوة والأخروية.

34. بلقيس: جميل جداً تحليلكم الرائع سيدي، أشكركم كثيراً أصالة عن نفسي ونيابة عن جميع القراء الأعزاء.


فضيل الجزائري .

تعلیقات المشاهدین
الاسم:
البرید الإلکتروني:
* رای: