بینات

تآریخ النشر: 20:40 - 2017 May 01
لا أحب أن أبدأ هذا المقال إلا بما قاله الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله قبل أكثر من ستين سنة، وهي إلى الآن لا تزال تفعل فينا ما فعلته سنو (أصلها سنون، حُذفت النون للإضافة) يوسف عليه السلام. قال في جريدة البصائر بمناسبة أحد أيام العيد، ونحن نستل منه ما يشير إلى الغرض من المقال: "وجاء هذا العيد (...) والأيدي العابثة في ليبيا تمزق الأوصال، وتداوي الجروح بالقروح، وفرعون في مصر يحاول المحال، ويطاول في الآجال(...)، والأردن قنطرة عبور للويل والثبور، (...)، والحجاز مطمح وراث متعاكسين، ونهزة شركاء متشاكسين، وقد أصبحت حماية (بيته) معلقة بحماية زيته، واليمن السعيدة شقية بأمرائها مقتولة بسيوفها (...). هذه ممالك العروبة والإسلام، كثرت أسماؤها، وقل غناؤها (...)".
رمز الخبر: 61

1/ لا أحب أن أبدأ هذا المقال إلا بما قاله الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله قبل أكثر من ستين سنة، وهي إلى الآن لا تزال تفعل فينا ما فعلته سنو (أصلها سنون، حُذفت النون للإضافة) يوسف عليه السلام. قال في جريدة البصائر بمناسبة أحد أيام العيد، ونحن نستل منه ما يشير إلى الغرض من المقال: "وجاء هذا العيد (...) والأيدي العابثة في ليبيا تمزق الأوصال، وتداوي الجروح بالقروح، وفرعون في مصر يحاول المحال، ويطاول في الآجال(...)، والأردن قنطرة عبور للويل والثبور، (...)، والحجاز مطمح وراث متعاكسين، ونهزة شركاء متشاكسين، وقد أصبحت حماية (بيته) معلقة بحماية زيته، واليمن السعيدة شقية بأمرائها مقتولة بسيوفها (...). هذه ممالك العروبة والإسلام، كثرت أسماؤها، وقل غناؤها (...)".

2/ ولمن لا يعرف هولاكو، هي ذي بطاقة تعريفه: هو حفيد جنكيز خان كبير أباطرة المغول. شكل جيشا تعداده 250 ألف جندي لغزو العالم الإسلامي إلى أن وصل بغداد (دار السلام) فدخلها عنوة في سنة 1258م، فسقطت بذلك عاصمة الخلافة الإسلامية، ليفعل فيها الأفاعيل: من قتل الخليفة، ويا لهول المصيبة: لأول مرة في التاريخ يجد المسلمون أنفسهم بلا خليفة (وإن كان في صورة شكلية)، ومن سلسلة الإعدامات والذبح والرمي في دجلة، وإلقاء الكتب فيه، حتى قيل أنها قد غطت مياهه، مما تفعله الدواعش الآن في كل مدينة أو قرية تدخلها: القتل الجماعي، دون تمييز بين طفل رضيع وأم مرضع، أو شيخ كبير أو مريض عليل، أو امرأة، الكل مشروع للذبح والقتل، والتعرض للآثار. ولولا أن المماليك (قطز والظاهر بيبرس) هزموه في معركة عين جالوت (رمضان 1260) لدخل مصر وأعاد فيها تجربة بغداد. أما أولمٍت فقد خبرناه في عدوان تموز 2006 على لبنان.

3/ أنظر عزيزي القارئ إلى كل دول العالم العربي واحذف منه الملكيات سيئة الصيت من المحيط إلى الخليج، والتي تؤكد أن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة [من سورة النمل/34]: الجزائر، تونس، ليبيا، مصر، سوريا، العراق، اليمن، كلها عاشت وتعيش اضطرابات خطيرة على مستوى تهديد السلم الاجتماعي وبنية الدولة. عشنا ذلك في الجزائر وعايشناه طيلة سنوات الجمر والجنون، كنا نحسب حينها أن عزرائيل عليه السلام يحبس علينا أنفاسنا ويصنع توابيتنا كل يوم. وما يجري الآن في تونس الشقيقة، ليبيا، مصر، سوريا، العراق واليمن: كلها من إنتاج نفس العقلية، ونفس الروح، ونفس التفكير، ونفس المظاهر من اللحية ونصف الساق ومن نفس العبارات التي لا يفتأون يلوكونها: الجماعات الإسلامية المسلحة في الجزائر التي لا زالت تنشط تحت تسميات مختلفة، داعش، جبهة النصرة، جيش الفتح، جيش الإسلام، أنصار بيت المقدس، بوكو حرام، وأخواتها وبناتها وربيباتها وأخواتها من الرضاعة وكل من كان منها بسبيل، كلها من الجماعات الإرهابية التي تتبنى التفكير الوهابي الذي غدا ماركة على الإرهاب الدولي ذي الطبعة الإسلامية- للأسف- العابر للحدود. وهذا الفكر الإرهابي مصدره واحد وحيد: السعودية، بمناهجها الدراسية وبفتاوى علمائها وشيوخها.. أثمة تكليف لآل سعود وآل الشيخ بشيطنة الإسلام وتقديمه للناس على أنه دين الذبح من القفا، ودين زرع القنابل والسيارات المفخخة في كل مكان؟. أما التكليف فنعم، أقولها جازما. ويبقى البحث عن الجهة ذات المصلحة في هذا التكليف.

أغاضهم القذافي فأطاحوا به بطريقة تذكر الناس بالغرائزية الحيوانية مستعينين بقوات الناتو ذات التوجه الصليبي الواضح؟. ها هو الشعب الليبي اليوم يذوق الأمرين من تدخلهم في شؤونه الداخلية، فلم لا يعملون على استتباب الأمن في البلد ويوظفوا فيه أموالهم في استثمارات منتجة خالقة للثروة دافعة إلى التطور والرقي؟.

أَحُبُّهُمْ للشعبين التونسي والمصري يدفع بهم إلى دعم الجماعات التكفيرية لتقتل وتخطف، المدنيين والعسكريين على حد سواء؟.

أما عن سوريا فالأمر أعظم وأكبر وأخطر: النظام العربي الوحيد الذي لا زال مقارعا للكيان الصهيوني ولم يفعل ما فعلته مصر (كامب ديفيد) والأردن (وادي عربة) وعرفات (أوسلو)،

النظام العربي الوحيد الذي لا زال يمد فصائل المقاومة الرافضة للكيان الصهيوني بكل عناصر الدعم المادي والسياسي، ولم يقل يوما أن ذلك يشكل عبئا عليه،

النظام العربي الوحيد الذي عرضت عليه أمريكا أكثر من مرة- عن طريق سياسة الجزرة والعصى- أن يتخلى عن سياساته الرافضة لإسرائيل مقابل أن ترضى عنه، هذا النظام يعمل آل سعود متحالفين مع آل يهود على الإطاحة به وبمشروعه التحرري القومي النهضوي من خلال دعم جماعات هولاكو/ أولمرت ذات اللحى الكثة والأقمصة القصيرة والفكر المتحجر. هذه الجماعات هي اليد الضاربة للمشروع الصهيو سعودي، وهي لا تتحرج ولا تستحي من التداوي في مستشفيات الكيان الصهيوني الميدانية، ولا تشعر بأي وخز ضمير في كل زيارة لرئيس الوزراء الصهيوني يقوم بها لعناصرهم، مبتسما معهم مادا لهم يده النتنة، الموغلة في دماء إخواننا. ولقارئ أن يقول: النظام السوري ديكتاتوري. أقول له: أرني نظاما عربيا واحدا غير ديكتاتوري... وهل السعودية والكيان الصهيوني واحة للديمقراطية؟. أو هل ترى أن أمريكا تعمل على تقويضه لذات السبب؟. لقد خبت وخسرت إذن لو كنت تفكر بهذا المنطق.

4/ أما عن اليمن، وما أدراك ما اليمن؟. يمن الحكمة والحضارة، يمن العزة والإيمان، فحدث ولا حرج.. ورد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللّهُ عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: "أتاكم أهل الْيمَنِ، هم أَرقّ أفئدة وألين قلوبا. الإِيمان يمان والحكمة يمانِية". وفي رواية لمسلم: "جاء أهل اليمن، هم أرق أفئدة. الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية". وفي مقابلها صفات أهل نجد، وبإمكان القارئ الكريم أن يعود إلى المدونات الحديثية ليتعرف عليها، لكني سأشير إلى بعضها. منها ما عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل المشرق يقول: "ألا إن الفتنة ها هنا، من حيث يطلع قرن الشيطان" [صحيح البخاري، اعتنى به أبو صهيب الكرمي، بيت الأفكار الدولية للنشر والتوزيع، الرياض، 1419هـ، 1998م، كتاب الفتن، باب قول النبي الفتنة من قبل المشرق، ص1355، ح7093، ومثله ح 7094.]. وفي صحيح مسلم: "ألا إن الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان". [كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب (16) قول النبي: الفتنة من المشرق حيث يطلع قرنا الشيطان، ص1328، ح2905. وفي رواية أخرى أنه قالها مرتين أو ثلاثا.]

والروايتان التاليتان تقدمان لنا صورة مقارنة بين البلدين، وهما كافيتان للدلالة على المراد.... فعن ابن عمر أيضا قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا". قالوا: يا رسول الله وفي نجدنا؟. قال: "اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا". قالوا: يا رسول الله وفي نجدنا؟، فأظنه قال في الثالثة: "هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان"[البخاري: م س، ح7094].

أما ابن مسعود فقال: أشار النبي بيده نحو اليمن فقال:" ألا إن الإيمان هاهنا، وإن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل، حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر".[صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب(21) تفاضل أهل الإيمان فيه ورجحان أهل اليمن فيه، ص42-43، ح51.] وفي البخاري مثله حيث قال: "الإيمان يمان ها هنا" وساق الحديث. [صحيح البخاري، م س، كتاب بدء الخلق، باب (15) خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، ص631،ح3302.] والمعروف أنموطن قبيلتي ربيعة ومضر إنما هو أرض نجد.

وما الذي فعله اليمن الذي ... كان سعيدا في السعودية، حتى تنتقم منه هذا الانتقام، وتدمر فيه كل مظاهر الحياة والحضارة؟. الجسور، المدارس، المساجد، محطات الكهرباء، محطات الوقود، محطات المياه، المصانع على قلتها، ضرب قوافل الغذاء والمطارات لمنع وصول الإغاثات العالمية.... كل ما في الأمر أن الشعب اليمني أراد أن يأخذ مصيره بيده وأن يمنع التدخل السعودي الذي عبث به لأكثر من 60 سنة. ومع وصول وزير الدفاع الجديد في المملكة، وهو الشاب الغر، الذي لا حظ له في قيادة الجيش سوى لأن أباه ملك، وقد أعلن (الأب الملك) نفسه أخيرا إماما ("يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار،بئس الورد المورود" [سورة هود المباركة، آية 98.] تتجه الأمور إلى مزيد من التعفن.

لأكثر من سنتين والعدوان السعودي على اليمن يتواصل حاصدا المزيد من الأرواح البريئة: ييتم، يرمل، يثكل، يضرب بالسلاح الممنوع دوليا، ثم هو يكذب (علينا أم على نفسه؟) ليقول أن الذي يفعله في اليمن هو من أجل الشعب اليمني ومن أجل استرجاع الشرعية، مع أن المضروب هو كامل الشعب اليمني (سوى المناطق التي تسيطر عليها القاعدة وداعش)، مع مؤسساته الشرعية وأملاكه، ومع أن عبد ربه هادي منصور لا شرعية له وفق مبادرة الخليج نفسها: لقد انتهت في أفريل 2014.. وأي شرعية لهادي وقد قرر تقسيم اليمن إلى ست مقاطعات؟؟. ربما كان اليمن أكبر منه فأراد تحجيمه وتقزيمه ليحكم سدس بلد على المقاس. إن شرعية هادي هي شرعنة لتقسيم اليمن.... لكن، هل يهتم آل سعود فعلا بالشرعية في اليمن؟. وأي شرعية لهم وهم يتوارثون الحكم والثروة وبلدا في حجم نصف قارة كما يرث أحدنا عقارا من أبيه وأمه؟. ولماذا لم يفعلوا في مصر ما فعلوه في اليمن مع أنهم لا يؤمنون بشرعية السيسي؟. ولماذا لا يمارسون شرعيتهم على جزرهم المحتلة من طرف العدو الصهيوني: تيران وصنافير؟. وهل حكمهم شرعي بالموازين الشرعية (من كتاب وسنة) والسياسية (من ديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان والمواطن)؟. عن أي شرعية يتحدث آل سعود وهم يقنبلون شعبا مسلما أعزل في شهر حرام هو شهر رجب؟.

ولمن يريد أن يعرف البربرية الداعشية ذات التوجه الوهابي فليقارن ما فعلته داعش بالطيار الأردني معاذ الكساسبة، وما فعله الحوثيون بالطيار المغربي الذي أسقطت طائرته في اليمن. وليقارن بعدها أيضا ما تفعله جحافل الوهابية في بعضها البعض من تقتيل في سوريا بالخصوص، في صراع دموي بين بعضها البعض على مناطق النفوذ وغيرها.

أريد أن أقول: ليس ثمة من فرق بين ما يفعله العدوان السعودي على اليمن ... الذي كان سعيدا، وسيبقى كذلك رغم حقد الحاقدين ودسيسة الدساسين، وبين ما فعلته جحافل المغول في بغداد وغيرها من الحواضر الإسلامية التي تمكنت من دخولها، وبين ما فعله الصهاينة في لبنان وغزة هاشم. وعلى كل حال، إننا إن لم نعايش جرائم المغول، فقد عايشنا جرائم الكيان الصهيوني اللقيط في لبنان(من 1982 إلى 2006) وغزة هاشم إلى اليوم، لم ينج منها لا بشر ولا حجر، ما يجعلني أقرر بكل اطمئنان أن جرائم آل سعود في اليمن الذي... كان سعيدا، وفي العراق وسوريا وليبيا وتونس، إن هي إلا استنساخ لجرائم آل يهود في هذين البلدين المسلمين، وهذه تذكر بتلك. لقد سيطروا عليه من خلال شراء الذمم لأكثر من ستين سنة، تحول فيها اليمن... الذي كان سعيدا إلى حديقة خلفية لآل سعود يَسْلَحون فيه ويمزقون نسيجه الاجتماعي ويربطون شبكة علاقات مشبوهة مع نخبه- شيوخ القبائل خاصة وبعض الرموز السياسية-، دون أدنى اهتمام بتحسين الوضع المعيشي فيه.... وهو مفهوم لجهة مراجعة الفكر القابع في أمخاخهم.

5/ هي ذي خصائص النظام السعودي لمن لا يعرف أو يكابر:

أ/ على المستوى الداخلي: إن نظاما لا يعرف الانتخابات، مهما كانت شكلية، ولا يعير أي اهتمام للرعية (بالتعبير الشرعي الذي يتداوله أنصاره ومحبوه) ويقمع الحريات العامة، ويمنع المرأة من سياقة السيارة ويجعلها موءودة حقا وحقيقة، ويمنع الأحزاب السياسية في بلده بفتاوى من هيئة كبار العملاء (نعم: العملاء: لست واهما ولا مخطئا لا في اختيار الحروف ولا في تركيب الكلمة) ويمول غيرها في دول إسلامية أخرى لتهديدها، إلى غيرها من مظاهر التخلف، إن نظاما يعبث بمقدرات الشعوب العربية ويكرس فيها مظاهر التخلف العام، إن نظاما يمكن لأمريكا وإسرائيل على حساب الشعوب العربية: إن نظاما هذه طبيعته لا يمكنه بحال أن يتكلم عن الشرعية، ولا عن طموحات الشعوب في التحرر والانعتاق.

ب/ وعلى المستوى الخارجي: العلاقات مع الكيان الصهيوني اللقيط: أروني فتوى وهابية واحدة في ضرورة مقاتلة إسرائيل. أروني جنديا صهيونيا واحدا قتله الرصاص السعودي، وهو خلاف ما نراه في ما حل بإخواننا المسلمين في اليمن أيضا حيث يقتلون بالطائرات الأمريكية والصواريخ الصهيونية، وبالتجويع، وبالحصار، تماما كما تفعله الدولة اللقيطة في فلسطين المحتلة بإخواننا في غزة هاشم. إن المسلمين من حقهم أن يطالبوا آل سعود بأن يضعوهم في نفس المرتبة مع إسرائيل: إما أن ينزلوا هذه إلى مستواهم، وإما ان يرفعوا مستواهم إلى مستواها. ثم إنه نظام يجلب الأساطيل الأمريكية ويوفر لها أرضا وأموالا وتبريرا شرعيا من فقهاء الخيانة.

بالمختصر المفيد، إنه نظام يعمل على تقويض الأمن الوطني للدول العربية ليمكن للمشروع الصهيو أمريكي في عالمنا العربي الإسلامي.

6/ ولا أريد أن أختم هذا المقال إلا بفكرتين، أولاهما تتعلق بالسيد وزير الشؤون الدينية والأوقاف المحترم، والثانية تتعلق بقناة "الهداف" الرياضية.

أما بخصوص السيد الوزير، فإني أوجه له دعوة صريحة، واضحة، قوية، لا لبس فيها ولا تشويه ولا تشويش، على أن يتخذ منها موقفا بلا لف ولا دوران، من هذا التفكير الذي استشرى كالداء العضال المزمن، في مساجدنا ومدارسنا، وسمم ثقافتنا الدينية وعلاقاتنا الاجتماعية. فمن جهة نرى سيادته يركز في كل مرة على ما أسميه بــ "الثلاثية الصانعة لطبيعة الثقافة الدينية للجزائريين" على مدى قرون وقرون: "فقه مالك، عقد الأشعري وطريقة الجنيد السالك". لكن خطابنا المسجدي ومدارسنا وكلياتنا الشرعية لا تعرف لهذه الثلاثية شأنا. وهو أقدر الناس على تلمس هذا. فلم يلتزم الصمت إزاء هذا الغزو الوهابي للجزائر وقد حطم عناصر وحدتنا الوطنية؟.

وفي المقابل يحلو للسيد الوزير أن يفرق بين ما يسمى ظلما وزورا بــ "السلفية العلمية" و"السلفية الجهادية". وأنا أختصر له المسافات وأوفر له الوقت والجهد لأهمس في أذنه هذه الحقيقة:

أولا: ما يأتينا من مملكة آل سعود ليس سلفية، بل هو وهابية.

وثانيا: ليس ثمة من فرق بين "السلفيتين" سوى أن "السلفية العلمية" تكفرك، و"السلفية الجهادية" تفجرك، أي أن "السلفية العلمية" هي الأساس النظري لــ "لسلفية الجهادية"، وما هي في الحقيقة سوى الوهابية القاتلة. أما السلف فبرئ منهم براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام. فبينهما تنوع أدوار ووحدة هدف، [حسب التعبير الرائع للسيد الشهيد محمد باقر الصدر رضوان الله تعالى عليه، وهو يشير إلى التنوع الظاهري لأدوار أئمة أهل البيت عليهم آلاف التحية والسلام، مع وحدوية الهدف الرئيسي لهم: إنقاذ ما أمكن إنقاذه من الثقافة الدينية الأصيلة.] إذ المرجعية في كلتيهما واحدة لا ثاني لها: ابن تيمية وابن عبد الوهاب، وهما رأس هذه الحملات التكفيرية الإرهابية في الجزائر وغيرها... والسيد الوزير يعرف هذا جيدا. وبهذا المنطق نكون مقتولين مرتين: مرة بالفتوى والتنظير، وأخرى بالرصاص والمتفجرات. أما أين؟، فلا يهم: تذكر أخي القارئ أين تم اغتيال الشيخ البوطي رحمه الله تعالى. فهم آلة للقتل، ولا يحسنون القتال..

ولمن يشكك في هذا الكلام فليقرأ النص التالي بتمعن وتجرد وإنصاف، ثم يحكم، وهو واحد من آلاف النصوص في هذا الاتجاه التكفيري، القتال والمدمر: "وقد انتسب إلى الأشعري أكثر العالم الإسلامي اليوم من أتباع المذاهب الأربعة، وهو يعتمد على تأويل نصوص الصفات تأويلا يصل أحيانا إلى حد التحريف، وأحيانا يكون تأويلا بعيدا جدا، وقد امتلأت الدنيا بكتب هذا المذهب وادعى أصحابها أنهم أهل السنة، ونسبوا من آمن بالنصوص على ظاهرها إلى التشبيه والتجسيم. هذا ولا بد لعلماء الإسلام- ورثة رسول الله صلى الله عليه و آله - من مقاومة هذه التيارات الجارفة، على حسب ما تقتضيه الحال، من مناظرات أو بالتأليف وبيان الحق بالبراهين العقلية والنقلية، وقد يصل الأمر أحيانا إلى شهر السلاح". [شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري، عبد الله بن محمد الغنيمان، رئيس قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، توزيع مكتبة الدار بالمدينة المنورة، الطبعة الأولى 1405هـ، الجزء الأول، ص 25 و26.] والمعروف أن غالبية المسلمين هم من الأشاعرة، وأنهم من أتباع المذاهب الأربعة المعروفة. وهذا حق لا مراء فيه. وهكذا يكون "المالكية كافة، وثلاثة أرباع الشافعية وثلث الحنفية وقسم من الحنابلة على هذه الطريقة". [تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري: ابن عساكر الدمشقي، عني بنشره القدسي، مطبعة التوفيق بدمشق، 1347هج، ص16.] إن هذا التفكير القابع خلف هذا المنطق الفاقد لكل منطق هو ما يفسر لنا العمليات الإجرامية لهذا التيار في حق عموم المسلمين، لم ينج منهم أحد: لا وهو في المسجد(الشيخ البوطي رحمه الله وآخرون كثر قتلوا ولا زالوا يقتلون ركعا وسجدا)، ولا في محطات الحافلات، ولا في الأسواق، ولا في سابع أرضين. . بل لم ينج بعضهم من بعض: ألا ترى كيف تتقاتل "داعش" مع "جبهة النصرة" مع أن الجميع من عائلة فكرية ومذهبية وفقهية واحدة؟. لم ينج منهم فقط سوى الكيان الصهيوني اللقيط. أيها المسلمون، أنتم مشاريع قتل وذبح ونحر على يد هذه الزمر. حتى الأموات لم ينجوا من عقلية الخراب هذه: نبشوا قبور الأولياء والصلحاء في سوريا، العراق، مالي، تونس. أيكفيكم هذا؟. ثمة مزيد: نبشوا قبر الإمام النووي رحمه الله في مدينة نوى في سوريا. أيكفيكم هذا؟. ثمة مزيد: نبشوا قبر الصحابي الجليل حجر بن عدي رضي الله عنه جنوب دمشق، أيكفيكم هذا؟. ثمة مزيد: نبشوا قبر نبي الله يونس بن متى عليه السلام في الموصل، أيكفيكم هذا؟. ثمة مزيد: مشروعهم أن يحطموا القبة الخضراء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما دعا إلى ذلك الشيخ مقبل بن هادي الوادعي في رسالته للماجستير، يكفيكم هذا؟. أيكفيكم هذا؟. بل ثمة مشروع لنبش قبره صلى الله عليه وآله وسلم. وما المانع من ذلك وقد حولوا بيت الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم إلى مراحيض عمومية، وهو البيت الذي قال الله تعالى فيه: "في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه"، [سورة النور المباركة، آية 36.] ثم هو البيت الذي كان ينزل فيه جبريل عليه السلام بالوحي من رب العالمين على قلب سيد الخلق أجمعين. وأنا هنا أدعو المسلمين جميعا- من الحجيج والمعتمرين- إلى أن يسلحوا في ملابسهم على أن يسلحوا في هذه البقعة الطاهرة المطهرة المباركة. وفي مقابل هذا نرى آل سعود يحمون آثار اليهود في خيبر ويحيطونها بسياج يمنع الناس من الاقتراب منها.

وأما عن وسائل الإعلام: قناة "الهداف" نموذجا، فأقول: من نافلة القول أن أثمن لوسيلة إعلامية اهتمامها بنشر الثقافة والوعي الدينيين، فإن هذا من آكد الواجبات وأولى الاهتمامات التي ينبغي تدعيمها وتوجيهها. لكن الذي شاهدته مرة، وأنا في المقهى، من على شاشة قناة "الهداف" الرياضية هذه وهي تقدم تعليما مصورا للصلاة، بطله يظهر بهيئة خليجية، أثار فيَّ الكثير من صور التقزز والرهاب، وذكَّرني بالذي سميته سابقا في مقال لي بــ" الاستلاب داخل الدائرة الإسلامية". ألم يكف هذه الوسيلة الإعلامية ما تراه من صور البؤس والخراب على يد هذا التيار على طول جغرافية العالم العربي لتقدم للشباب نماذج لرواده؟. هل ضاق علينا فهم الدين وممارسته لنلجأ إلى حصار أنفسنا وإعادة تكرار تجربة التسعينيات؟.. أم أننا لم نَسْمُ بعد إلى مستوى الثور الذي قال: أكلت يوم أكل الثور الأبيض؟ وقد أكلنا سابقا، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. . وفي المقابل شاهدت قناة تلفزيونية مغربية وهي تقدم تعليما للصلاة، لكن المعلم مالكي أشعري1/ لا أحب أن أبدأ هذا المقال إلا بما قاله الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله قبل أكثر من ستين سنة، وهي إلى الآن لا تزال تفعل فينا ما فعلته سنو (أصلها سنون، حُذفت النون للإضافة) يوسف عليه السلام. قال في جريدة البصائر بمناسبة أحد أيام العيد، ونحن نستل منه ما يشير إلى الغرض من المقال: "وجاء هذا العيد (...) والأيدي العابثة في ليبيا تمزق الأوصال، وتداوي الجروح بالقروح، وفرعون في مصر يحاول المحال، ويطاول في الآجال(...)، والأردن قنطرة عبور للويل والثبور، (...)، والحجاز مطمح وراث متعاكسين، ونهزة شركاء متشاكسين، وقد أصبحت حماية (بيته) معلقة بحماية زيته، واليمن السعيدة شقية بأمرائها مقتولة بسيوفها (...). هذه ممالك العروبة والإسلام، كثرت أسماؤها، وقل غناؤها (...)".

2/ ولمن لا يعرف هولاكو، هي ذي بطاقة تعريفه: هو حفيد جنكيز خان كبير أباطرة المغول. شكل جيشا تعداده 250 ألف جندي لغزو العالم الإسلامي إلى أن وصل بغداد (دار السلام) فدخلها عنوة في سنة 1258م، فسقطت بذلك عاصمة الخلافة الإسلامية، ليفعل فيها الأفاعيل: من قتل الخليفة، ويا لهول المصيبة: لأول مرة في التاريخ يجد المسلمون أنفسهم بلا خليفة (وإن كان في صورة شكلية)، ومن سلسلة الإعدامات والذبح والرمي في دجلة، وإلقاء الكتب فيه، حتى قيل أنها قد غطت مياهه، مما تفعله الدواعش الآن في كل مدينة أو قرية تدخلها: القتل الجماعي، دون تمييز بين طفل رضيع وأم مرضع، أو شيخ كبير أو مريض عليل، أو امرأة، الكل مشروع للذبح والقتل، والتعرض للآثار. ولولا أن المماليك (قطز والظاهر بيبرس) هزموه في معركة عين جالوت (رمضان 1260) لدخل مصر وأعاد فيها تجربة بغداد. أما أولمٍت فقد خبرناه في عدوان تموز 2006 على لبنان.

3/ أنظر عزيزي القارئ إلى كل دول العالم العربي واحذف منه الملكيات سيئة الصيت من المحيط إلى الخليج، والتي تؤكد أن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة [من سورة النمل/34]: الجزائر، تونس، ليبيا، مصر، سوريا، العراق، اليمن، كلها عاشت وتعيش اضطرابات خطيرة على مستوى تهديد السلم الاجتماعي وبنية الدولة. عشنا ذلك في الجزائر وعايشناه طيلة سنوات الجمر والجنون، كنا نحسب حينها أن عزرائيل عليه السلام يحبس علينا أنفاسنا ويصنع توابيتنا كل يوم. وما يجري الآن في تونس الشقيقة، ليبيا، مصر، سوريا، العراق واليمن: كلها من إنتاج نفس العقلية، ونفس الروح، ونفس التفكير، ونفس المظاهر من اللحية ونصف الساق ومن نفس العبارات التي لا يفتأون يلوكونها: الجماعات الإسلامية المسلحة في الجزائر التي لا زالت تنشط تحت تسميات مختلفة، داعش، جبهة النصرة، جيش الفتح، جيش الإسلام، أنصار بيت المقدس، بوكو حرام، وأخواتها وبناتها وربيباتها وأخواتها من الرضاعة وكل من كان منها بسبيل، كلها من الجماعات الإرهابية التي تتبنى التفكير الوهابي الذي غدا ماركة على الإرهاب الدولي ذي الطبعة الإسلامية- للأسف- العابر للحدود. وهذا الفكر الإرهابي مصدره واحد وحيد: السعودية، بمناهجها الدراسية وبفتاوى علمائها وشيوخها.. أثمة تكليف لآل سعود وآل الشيخ بشيطنة الإسلام وتقديمه للناس على أنه دين الذبح من القفا، ودين زرع القنابل والسيارات المفخخة في كل مكان؟. أما التكليف فنعم، أقولها جازما. ويبقى البحث عن الجهة ذات المصلحة في هذا التكليف.

أغاضهم القذافي فأطاحوا به بطريقة تذكر الناس بالغرائزية الحيوانية مستعينين بقوات الناتو ذات التوجه الصليبي الواضح؟. ها هو الشعب الليبي اليوم يذوق الأمرين من تدخلهم في شؤونه الداخلية، فلم لا يعملون على استتباب الأمن في البلد ويوظفوا فيه أموالهم في استثمارات منتجة خالقة للثروة دافعة إلى التطور والرقي؟.

أَحُبُّهُمْ للشعبين التونسي والمصري يدفع بهم إلى دعم الجماعات التكفيرية لتقتل وتخطف، المدنيين والعسكريين على حد سواء؟.

أما عن سوريا فالأمر أعظم وأكبر وأخطر: النظام العربي الوحيد الذي لا زال مقارعا للكيان الصهيوني ولم يفعل ما فعلته مصر (كامب ديفيد) والأردن (وادي عربة) وعرفات (أوسلو)،

النظام العربي الوحيد الذي لا زال يمد فصائل المقاومة الرافضة للكيان الصهيوني بكل عناصر الدعم المادي والسياسي، ولم يقل يوما أن ذلك يشكل عبئا عليه،

النظام العربي الوحيد الذي عرضت عليه أمريكا أكثر من مرة- عن طريق سياسة الجزرة والعصى- أن يتخلى عن سياساته الرافضة لإسرائيل مقابل أن ترضى عنه، هذا النظام يعمل آل سعود متحالفين مع آل يهود على الإطاحة به وبمشروعه التحرري القومي النهضوي من خلال دعم جماعات هولاكو/ أولمرت ذات اللحى الكثة والأقمصة القصيرة والفكر المتحجر. هذه الجماعات هي اليد الضاربة للمشروع الصهيو سعودي، وهي لا تتحرج ولا تستحي من التداوي في مستشفيات الكيان الصهيوني الميدانية، ولا تشعر بأي وخز ضمير في كل زيارة لرئيس الوزراء الصهيوني يقوم بها لعناصرهم، مبتسما معهم مادا لهم يده النتنة، الموغلة في دماء إخواننا. ولقارئ أن يقول: النظام السوري ديكتاتوري. أقول له: أرني نظاما عربيا واحدا غير ديكتاتوري... وهل السعودية والكيان الصهيوني واحة للديمقراطية؟. أو هل ترى أن أمريكا تعمل على تقويضه لذات السبب؟. لقد خبت وخسرت إذن لو كنت تفكر بهذا المنطق.

4/ أما عن اليمن، وما أدراك ما اليمن؟. يمن الحكمة والحضارة، يمن العزة والإيمان، فحدث ولا حرج.. ورد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللّهُ عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: "أتاكم أهل الْيمَنِ، هم أَرقّ أفئدة وألين قلوبا. الإِيمان يمان والحكمة يمانِية". وفي رواية لمسلم: "جاء أهل اليمن، هم أرق أفئدة. الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية". وفي مقابلها صفات أهل نجد، وبإمكان القارئ الكريم أن يعود إلى المدونات الحديثية ليتعرف عليها، لكني سأشير إلى بعضها. منها ما عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل المشرق يقول: "ألا إن الفتنة ها هنا، من حيث يطلع قرن الشيطان" [صحيح البخاري، اعتنى به أبو صهيب الكرمي، بيت الأفكار الدولية للنشر والتوزيع، الرياض، 1419هـ، 1998م، كتاب الفتن، باب قول النبي الفتنة من قبل المشرق، ص1355، ح7093، ومثله ح 7094.]. وفي صحيح مسلم: "ألا إن الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان". [كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب (16) قول النبي: الفتنة من المشرق حيث يطلع قرنا الشيطان، ص1328، ح2905. وفي رواية أخرى أنه قالها مرتين أو ثلاثا.]

والروايتان التاليتان تقدمان لنا صورة مقارنة بين البلدين، وهما كافيتان للدلالة على المراد.... فعن ابن عمر أيضا قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا". قالوا: يا رسول الله وفي نجدنا؟. قال: "اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا". قالوا: يا رسول الله وفي نجدنا؟، فأظنه قال في الثالثة: "هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان"[البخاري: م س، ح7094].

أما ابن مسعود فقال: أشار النبي بيده نحو اليمن فقال:" ألا إن الإيمان هاهنا، وإن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل، حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر".[صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب(21) تفاضل أهل الإيمان فيه ورجحان أهل اليمن فيه، ص42-43، ح51.] وفي البخاري مثله حيث قال: "الإيمان يمان ها هنا" وساق الحديث. [صحيح البخاري، م س، كتاب بدء الخلق، باب (15) خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، ص631،ح3302.] والمعروف أنموطن قبيلتي ربيعة ومضر إنما هو أرض نجد.

وما الذي فعله اليمن الذي ... كان سعيدا في السعودية، حتى تنتقم منه هذا الانتقام، وتدمر فيه كل مظاهر الحياة والحضارة؟. الجسور، المدارس، المساجد، محطات الكهرباء، محطات الوقود، محطات المياه، المصانع على قلتها، ضرب قوافل الغذاء والمطارات لمنع وصول الإغاثات العالمية.... كل ما في الأمر أن الشعب اليمني أراد أن يأخذ مصيره بيده وأن يمنع التدخل السعودي الذي عبث به لأكثر من 60 سنة. ومع وصول وزير الدفاع الجديد في المملكة، وهو الشاب الغر، الذي لا حظ له في قيادة الجيش سوى لأن أباه ملك، وقد أعلن (الأب الملك) نفسه أخيرا إماما ("يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار،بئس الورد المورود" [سورة هود المباركة، آية 98.] تتجه الأمور إلى مزيد من التعفن.

لأكثر من سنتين والعدوان السعودي على اليمن يتواصل حاصدا المزيد من الأرواح البريئة: ييتم، يرمل، يثكل، يضرب بالسلاح الممنوع دوليا، ثم هو يكذب (علينا أم على نفسه؟) ليقول أن الذي يفعله في اليمن هو من أجل الشعب اليمني ومن أجل استرجاع الشرعية، مع أن المضروب هو كامل الشعب اليمني (سوى المناطق التي تسيطر عليها القاعدة وداعش)، مع مؤسساته الشرعية وأملاكه، ومع أن عبد ربه هادي منصور لا شرعية له وفق مبادرة الخليج نفسها: لقد انتهت في أفريل 2014.. وأي شرعية لهادي وقد قرر تقسيم اليمن إلى ست مقاطعات؟؟. ربما كان اليمن أكبر منه فأراد تحجيمه وتقزيمه ليحكم سدس بلد على المقاس. إن شرعية هادي هي شرعنة لتقسيم اليمن.... لكن، هل يهتم آل سعود فعلا بالشرعية في اليمن؟. وأي شرعية لهم وهم يتوارثون الحكم والثروة وبلدا في حجم نصف قارة كما يرث أحدنا عقارا من أبيه وأمه؟. ولماذا لم يفعلوا في مصر ما فعلوه في اليمن مع أنهم لا يؤمنون بشرعية السيسي؟. ولماذا لا يمارسون شرعيتهم على جزرهم المحتلة من طرف العدو الصهيوني: تيران وصنافير؟. وهل حكمهم شرعي بالموازين الشرعية (من كتاب وسنة) والسياسية (من ديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان والمواطن)؟. عن أي شرعية يتحدث آل سعود وهم يقنبلون شعبا مسلما أعزل في شهر حرام هو شهر رجب؟.

ولمن يريد أن يعرف البربرية الداعشية ذات التوجه الوهابي فليقارن ما فعلته داعش بالطيار الأردني معاذ الكساسبة، وما فعله الحوثيون بالطيار المغربي الذي أسقطت طائرته في اليمن. وليقارن بعدها أيضا ما تفعله جحافل الوهابية في بعضها البعض من تقتيل في سوريا بالخصوص، في صراع دموي بين بعضها البعض على مناطق النفوذ وغيرها.

أريد أن أقول: ليس ثمة من فرق بين ما يفعله العدوان السعودي على اليمن ... الذي كان سعيدا، وسيبقى كذلك رغم حقد الحاقدين ودسيسة الدساسين، وبين ما فعلته جحافل المغول في بغداد وغيرها من الحواضر الإسلامية التي تمكنت من دخولها، وبين ما فعله الصهاينة في لبنان وغزة هاشم. وعلى كل حال، إننا إن لم نعايش جرائم المغول، فقد عايشنا جرائم الكيان الصهيوني اللقيط في لبنان(من 1982 إلى 2006) وغزة هاشم إلى اليوم، لم ينج منها لا بشر ولا حجر، ما يجعلني أقرر بكل اطمئنان أن جرائم آل سعود في اليمن الذي... كان سعيدا، وفي العراق وسوريا وليبيا وتونس، إن هي إلا استنساخ لجرائم آل يهود في هذين البلدين المسلمين، وهذه تذكر بتلك. لقد سيطروا عليه من خلال شراء الذمم لأكثر من ستين سنة، تحول فيها اليمن... الذي كان سعيدا إلى حديقة خلفية لآل سعود يَسْلَحون فيه ويمزقون نسيجه الاجتماعي ويربطون شبكة علاقات مشبوهة مع نخبه- شيوخ القبائل خاصة وبعض الرموز السياسية-، دون أدنى اهتمام بتحسين الوضع المعيشي فيه.... وهو مفهوم لجهة مراجعة الفكر القابع في أمخاخهم.

5/ هي ذي خصائص النظام السعودي لمن لا يعرف أو يكابر:

أ/ على المستوى الداخلي: إن نظاما لا يعرف الانتخابات، مهما كانت شكلية، ولا يعير أي اهتمام للرعية (بالتعبير الشرعي الذي يتداوله أنصاره ومحبوه) ويقمع الحريات العامة، ويمنع المرأة من سياقة السيارة ويجعلها موءودة حقا وحقيقة، ويمنع الأحزاب السياسية في بلده بفتاوى من هيئة كبار العملاء (نعم: العملاء: لست واهما ولا مخطئا لا في اختيار الحروف ولا في تركيب الكلمة) ويمول غيرها في دول إسلامية أخرى لتهديدها، إلى غيرها من مظاهر التخلف، إن نظاما يعبث بمقدرات الشعوب العربية ويكرس فيها مظاهر التخلف العام، إن نظاما يمكن لأمريكا وإسرائيل على حساب الشعوب العربية: إن نظاما هذه طبيعته لا يمكنه بحال أن يتكلم عن الشرعية، ولا عن طموحات الشعوب في التحرر والانعتاق.

ب/ وعلى المستوى الخارجي: العلاقات مع الكيان الصهيوني اللقيط: أروني فتوى وهابية واحدة في ضرورة مقاتلة إسرائيل. أروني جنديا صهيونيا واحدا قتله الرصاص السعودي، وهو خلاف ما نراه في ما حل بإخواننا المسلمين في اليمن أيضا حيث يقتلون بالطائرات الأمريكية والصواريخ الصهيونية، وبالتجويع، وبالحصار، تماما كما تفعله الدولة اللقيطة في فلسطين المحتلة بإخواننا في غزة هاشم. إن المسلمين من حقهم أن يطالبوا آل سعود بأن يضعوهم في نفس المرتبة مع إسرائيل: إما أن ينزلوا هذه إلى مستواهم، وإما ان يرفعوا مستواهم إلى مستواها. ثم إنه نظام يجلب الأساطيل الأمريكية ويوفر لها أرضا وأموالا وتبريرا شرعيا من فقهاء الخيانة.

بالمختصر المفيد، إنه نظام يعمل على تقويض الأمن الوطني للدول العربية ليمكن للمشروع الصهيو أمريكي في عالمنا العربي الإسلامي.

6/ ولا أريد أن أختم هذا المقال إلا بفكرتين، أولاهما تتعلق بالسيد وزير الشؤون الدينية والأوقاف المحترم، والثانية تتعلق بقناة "الهداف" الرياضية.

أما بخصوص السيد الوزير، فإني أوجه له دعوة صريحة، واضحة، قوية، لا لبس فيها ولا تشويه ولا تشويش، على أن يتخذ منها موقفا بلا لف ولا دوران، من هذا التفكير الذي استشرى كالداء العضال المزمن، في مساجدنا ومدارسنا، وسمم ثقافتنا الدينية وعلاقاتنا الاجتماعية. فمن جهة نرى سيادته يركز في كل مرة على ما أسميه بــ "الثلاثية الصانعة لطبيعة الثقافة الدينية للجزائريين" على مدى قرون وقرون: "فقه مالك، عقد الأشعري وطريقة الجنيد السالك". لكن خطابنا المسجدي ومدارسنا وكلياتنا الشرعية لا تعرف لهذه الثلاثية شأنا. وهو أقدر الناس على تلمس هذا. فلم يلتزم الصمت إزاء هذا الغزو الوهابي للجزائر وقد حطم عناصر وحدتنا الوطنية؟.

وفي المقابل يحلو للسيد الوزير أن يفرق بين ما يسمى ظلما وزورا بــ "السلفية العلمية" و"السلفية الجهادية". وأنا أختصر له المسافات وأوفر له الوقت والجهد لأهمس في أذنه هذه الحقيقة:

أولا: ما يأتينا من مملكة آل سعود ليس سلفية، بل هو وهابية.

وثانيا: ليس ثمة من فرق بين "السلفيتين" سوى أن "السلفية العلمية" تكفرك، و"السلفية الجهادية" تفجرك، أي أن "السلفية العلمية" هي الأساس النظري لــ "لسلفية الجهادية"، وما هي في الحقيقة سوى الوهابية القاتلة. أما السلف فبرئ منهم براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام. فبينهما تنوع أدوار ووحدة هدف، [حسب التعبير الرائع للسيد الشهيد محمد باقر الصدر رضوان الله تعالى عليه، وهو يشير إلى التنوع الظاهري لأدوار أئمة أهل البيت عليهم آلاف التحية والسلام، مع وحدوية الهدف الرئيسي لهم: إنقاذ ما أمكن إنقاذه من الثقافة الدينية الأصيلة.] إذ المرجعية في كلتيهما واحدة لا ثاني لها: ابن تيمية وابن عبد الوهاب، وهما رأس هذه الحملات التكفيرية الإرهابية في الجزائر وغيرها... والسيد الوزير يعرف هذا جيدا. وبهذا المنطق نكون مقتولين مرتين: مرة بالفتوى والتنظير، وأخرى بالرصاص والمتفجرات. أما أين؟، فلا يهم: تذكر أخي القارئ أين تم اغتيال الشيخ البوطي رحمه الله تعالى. فهم آلة للقتل، ولا يحسنون القتال..

ولمن يشكك في هذا الكلام فليقرأ النص التالي بتمعن وتجرد وإنصاف، ثم يحكم، وهو واحد من آلاف النصوص في هذا الاتجاه التكفيري، القتال والمدمر: "وقد انتسب إلى الأشعري أكثر العالم الإسلامي اليوم من أتباع المذاهب الأربعة، وهو يعتمد على تأويل نصوص الصفات تأويلا يصل أحيانا إلى حد التحريف، وأحيانا يكون تأويلا بعيدا جدا، وقد امتلأت الدنيا بكتب هذا المذهب وادعى أصحابها أنهم أهل السنة، ونسبوا من آمن بالنصوص على ظاهرها إلى التشبيه والتجسيم. هذا ولا بد لعلماء الإسلام- ورثة رسول الله - من مقاومة هذه التيارات الجارفة، على حسب ما تقتضيه الحال، من مناظرات أو بالتأليف وبيان الحق بالبراهين العقلية والنقلية، وقد يصل الأمر أحيانا إلى شهر السلاح". [شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري، عبد الله بن محمد الغنيمان، رئيس قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، توزيع مكتبة الدار بالمدينة المنورة، الطبعة الأولى 1405هـ، الجزء الأول، ص 25 و26.] والمعروف أن غالبية المسلمين هم من الأشاعرة، وأنهم من أتباع المذاهب الأربعة المعروفة. وهذا حق لا مراء فيه. وهكذا يكون "المالكية كافة، وثلاثة أرباع الشافعية وثلث الحنفية وقسم من الحنابلة على هذه الطريقة". [تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري: ابن عساكر الدمشقي، عني بنشره القدسي، مطبعة التوفيق بدمشق، 1347هج، ص16.] إن هذا التفكير القابع خلف هذا المنطق الفاقد لكل منطق هو ما يفسر لنا العمليات الإجرامية لهذا التيار في حق عموم المسلمين، لم ينج منهم أحد: لا وهو في المسجد(الشيخ البوطي رحمه الله وآخرون كثر قتلوا ولا زالوا يقتلون ركعا وسجدا)، ولا في محطات الحافلات، ولا في الأسواق، ولا في سابع أرضين. . بل لم ينج بعضهم من بعض: ألا ترى كيف تتقاتل "داعش" مع "جبهة النصرة" مع أن الجميع من عائلة فكرية ومذهبية وفقهية واحدة؟. لم ينج منهم فقط سوى الكيان الصهيوني اللقيط. أيها المسلمون، أنتم مشاريع قتل وذبح ونحر على يد هذه الزمر. حتى الأموات لم ينجوا من عقلية الخراب هذه: نبشوا قبور الأولياء والصلحاء في سوريا، العراق، مالي، تونس. أيكفيكم هذا؟. ثمة مزيد: نبشوا قبر الإمام النووي رحمه الله في مدينة نوى في سوريا. أيكفيكم هذا؟. ثمة مزيد: نبشوا قبر الصحابي الجليل حجر بن عدي رضي الله عنه جنوب دمشق، أيكفيكم هذا؟. ثمة مزيد: نبشوا قبر نبي الله يونس بن متى عليه السلام في الموصل، أيكفيكم هذا؟. ثمة مزيد: مشروعهم أن يحطموا القبة الخضراء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما دعا إلى ذلك الشيخ مقبل بن هادي الوادعي في رسالته للماجستير، يكفيكم هذا؟. أيكفيكم هذا؟. بل ثمة مشروع لنبش قبره صلى الله عليه وآله وسلم. وما المانع من ذلك وقد حولوا بيت الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم إلى مراحيض عمومية، وهو البيت الذي قال الله تعالى فيه: "في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه"، [سورة النور المباركة، آية 36.] ثم هو البيت الذي كان ينزل فيه جبريل عليه السلام بالوحي من رب العالمين على قلب سيد الخلق أجمعين. وأنا هنا أدعو المسلمين جميعا- من الحجيج والمعتمرين- إلى أن يسلحوا في ملابسهم على أن يسلحوا في هذه البقعة الطاهرة المطهرة المباركة. وفي مقابل هذا نرى آل سعود يحمون آثار اليهود في خيبر ويحيطونها بسياج يمنع الناس من الاقتراب منها.

وأما عن وسائل الإعلام: قناة "الهداف" نموذجا، فأقول: من نافلة القول أن أثمن لوسيلة إعلامية اهتمامها بنشر الثقافة والوعي الدينيين، فإن هذا من آكد الواجبات وأولى الاهتمامات التي ينبغي تدعيمها وتوجيهها. لكن الذي شاهدته مرة، وأنا في المقهى، من على شاشة قناة "الهداف" الرياضية هذه وهي تقدم تعليما مصورا للصلاة، بطله يظهر بهيئة خليجية، أثار فيَّ الكثير من صور التقزز والرهاب، وذكَّرني بالذي سميته سابقا في مقال لي بــ" الاستلاب داخل الدائرة الإسلامية". ألم يكف هذه الوسيلة الإعلامية ما تراه من صور البؤس والخراب على يد هذا التيار على طول جغرافية العالم العربي لتقدم للشباب نماذج لرواده؟. هل ضاق علينا فهم الدين وممارسته لنلجأ إلى حصار أنفسنا وإعادة تكرار تجربة التسعينيات؟.. أم أننا لم نَسْمُ بعد إلى مستوى الثور الذي قال: أكلت يوم أكل الثور الأبيض؟ وقد أكلنا سابقا، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. . وفي المقابل شاهدت قناة تلفزيونية مغربية وهي تقدم تعليما للصلاة، لكن المعلم مالكي أشعري، أي من أهل السنة والجماعة، وباللباس التقليدي السائد في منطقة المغرب العربي. كان عليها أن تتصل بشيوخ الأشاعرة في الجزائر، منهم الشيخ شمس الدين، والشيخ الطاهر علجات حفظه الله تعالى ورعاه، وغيرهما كثير في الجزائر، لكي نعلم الناس إسلام الرحمة والتكافل، والعلم والبناء، لكي لا نهدد سلامنا الاجتماعي بمرجعيات أجنبية. نريد أن نؤسس لجيل يحمل هموم الأمير عبد القادر رحمه الله تعالى، جيل مرتبط بالجزائر، أقدامه راسخة فيها وهمته معلقة بالثريا. وفي هذا السياق أدعو إلى تفعيل مؤسسة مفتي الجمهورية على غرار باقي الدول الإسلامية. أثقل علينا تربية ناشئتنا على القيم الوطنية الكبرى [تذكر أخي القارئ "الثلاثية الصانعة لطبيعة الثقافة الدينية للجزائريين" المشار إليها آنفا]، ثم نمرر قيما دخيلة علينا ثبت مشاركتها في الجريمة والإرهاب وتمزيق أوصال المجتمع الجزائري؟.

، أي من أهل السنة والجماعة، وباللباس التقليدي السائد في منطقة المغرب العربي. كان عليها أن تتصل بشيوخ الأشاعرة في الجزائر، منهم الشيخ شمس الدين، والشيخ الطاهر علجات حفظه الله تعالى ورعاه، وغيرهما كثير في الجزائر، لكي نعلم الناس إسلام الرحمة والتكافل، والعلم والبناء، لكي لا نهدد سلامنا الاجتماعي بمرجعيات أجنبية. نريد أن نؤسس لجيل يحمل هموم الأمير عبد القادر رحمه الله تعالى، جيل مرتبط بالجزائر، أقدامه راسخة فيها وهمته معلقة بالثريا. وفي هذا السياق أدعو إلى تفعيل مؤسسة مفتي الجمهورية على غرار باقي الدول الإسلامية. أثقل علينا تربية ناشئتنا على القيم الوطنية الكبرى [تذكر أخي القارئ "الثلاثية الصانعة لطبيعة الثقافة الدينية للجزائريين" المشار إليها آنفا]، ثم نمرر قيما دخيلة علينا ثبت مشاركتها في الجريمة والإرهاب وتمزيق أوصال المجتمع الجزائري؟.


الأستاذ د محمد 

تعلیقات المشاهدین
الاسم:
البرید الإلکتروني:
* رای: