بینات

تآریخ النشر: 21:48 - 2017 May 18
إنّ مما لاشك فيه عند علماء الكلام المسلمين وجوب عصمة الأنبياء وقد استدلوا على ذلك بأدلة عقلية ونقلية مختلفة, إلا أن علماء مدرسة أهل البيت ^ اعتبروا الإمامة استمراراً للنبوة ولا تكون إلا بجعل إلهي، واشترطوا في الإمام أن يكون معصوماً عصمةً مطلقة, لأنّ الله قد أوجب طاعتهم طاعةً مطلقة, ومن القبيح أن يأمر بطاعة من لا يؤمَن عليه الخطأ, لأنه نقض للغرض, وخلاف الهداية التي نُصبوا من أجلها, وعليه فقد استدل المتكلمون من مدرسة أهل البيت^ بأدلة عقلية ونقلية مختلفة على عصمة الأئمة من أهل البيت^, ومن أهم الأدلة النقلية التي استدلوا بها: آية التطهير وهي قوله تعالى:{إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}. .
رمز الخبر: 70

مع الدكتور عبد الهادي الحسيني وآية التطهير

مقدّمة

إنّ مما لاشك فيه عند علماء الكلام المسلمين وجوب عصمة الأنبياء وقد استدلوا على ذلك بأدلة عقلية ونقلية مختلفة, إلا أن علماء مدرسة أهل البيت ^ اعتبروا الإمامة استمراراً للنبوة ولا تكون إلا بجعل إلهي، واشترطوا في الإمام أن يكون معصوماً عصمةً مطلقة, لأنّ الله قد أوجب طاعتهم طاعةً مطلقة, ومن القبيح أن يأمر بطاعة من لا يؤمَن عليه الخطأ, لأنه نقض للغرض, وخلاف الهداية التي نُصبوا من أجلها, وعليه فقد استدل المتكلمون من مدرسة أهل البيت^ بأدلة عقلية ونقلية مختلفة على عصمة الأئمة من أهل البيت^, ومن أهم الأدلة النقلية التي استدلوا بها: آية التطهير وهي قوله تعالى:{إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}(1) . إلا أن بعضاً حاول التشكيك في هذه الآية بدعوى نزولها في أزواج النبي ‘ تارة, وبإيراد شبهات مختلفة في أنها لاتدل على العصمة حتى لو سُلّم نزولها في أهل البيت تارة أخرى. . ولقد وقفت مؤخرا على رسالة كتبها شخص يسمّى بالدكتور عبد الهادي الحسيني, سودها بالمغالطات وحشاها بالشبهات وحاول جاهداً ردّ دلالة الآية على العصمة, وردَ كونها نازلة في الخمسة من أصحاب العبا ^ خاصة, فأحببت أن أكتب هذا الرد المختصر عليه وعلى الشبهات التي جاء بها.

1- الشبهة الأولى: دعوى أن آية التطهير جزء آية.

قال الدكتور: > آية التطهير, وهي قوله تعالى : {...إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}, أقوى ما احتجوا به من آيات القرآن, ويلاحظ أنها ليست آية كاملة وإنما هي تتمة الآية التي أولها خطاب لأمهات المؤمنين بقوله : {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ…}, ولذلك فتسميتها بـ " آية التطهير " تدليس لأنها ليست بآية وإنما هي جزء منها< .

الدكتور ادّعى أنّ آية التطهير جزء آية وليست آية كاملة, ووصف من قال أنها آية بالتدليس، وهو يريد أتباع مدرسة أهل البيت ^. . ويمكن أن يجاب أنه على التسليم بأنها جزء آية، فإنه ليس من التدليس تسمية الشيء بشيء آخر بنحو المجاز إذا كان هناك علاقة مصححة لهذا المجاز, فإطلاق الكل وإرادة الجزء من العلاقات المصححة ولم يدّع أحد أنه من التدليس, وقد ورد هذا الإستعمال في القرآن الكريم, في قوله تعالى {يجعلون أصابعهم في آذانهم} (2) , حيث أنه أطلق الكل وأراد الجزء, فأطلق الأصابع وأراد الأنامل بإعتبار أن الأنامل جزؤها, وهكذا فيما نحن فيه فإن من يسمي جزء الآية بالآية فإنه من باب المجاز المرسل، لعلاقة الكل والجزء.

ثم إن آية التطهير هي آية مستقلة نزلت لوحدها ولم تنزل مع الآية الثالثة والثلاثين من سورة الأحزاب, وأن جملة من الصحابة عبّروا عنها بالآية في أحاديث صحيحة من كتب أهل السنة منهم: . 1- سعد بن أبي وقاص: أخرج روايته الطحاوي في شرح مشكل الآثار فقال تحت عنوان (باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله «عليه السلام» في المراد بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} من هم؟: (حدثنا الربيع المرادي، حدثنا أسد بن موسى،حدثنا حاتم بن إسماعيل، حدثنا بكير بن مسمار، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله «صلى الله عليه وسلم» عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً «عليهم السلام» فقال: اللهم هؤلاء أهلي(3) . 2- عمر بن أبي سلمة: أخرج روايته الترمذي في سننه فقال: (حدثنا قتيبة، حدثنا محمد بن سليمان الأصبهاني، عن يحيى بن عبيد، عن عطاء بن أبي رباح، عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي «صلى الله عليه وسلم» قال: نزلت هذه الآية على النبي «صلى الله عليه وسلم» {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} في بيت أم سلمة فدعا النبي «صلى الله عليه وسلم» فاطمة وحسناً وحسيناً فجللهم بكساء وعلي خلف ظهره فجلله بكساء ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبي الله؟! قال: أنت على مكانك وأنت إلى خير) (4) .

3 - أم سلمة: أخرج روايتها الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين فقال: (حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، حدثنا شريك ابن أبي نمر، عن عطاء بن يسار، عن أم سلمة «رضي الله عنها» أنها قالت: في بيتي نزلت هذه الآية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} قالت: فأرسل رسول الله «صلى الله عليه وسلم» إلى علي وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم أجمعين فقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي»، قالت أم سلمة: يا رسول الله ما أنا من أهل البيت؟! قال: إنك إلى خير، وهؤلاء أهل بيتي، اللهم أهلي أحق(5). ثم قال الحاكم صحيح على شرطي البخاري ومسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي .

4- واثلة بن الأسقع: أخرج روايته أحمد ابن حنبل في مسنده فقال: (حدثنا محمد بن مصعب، قال: حدثنا الأوزاعي عن شداد أبي عمارة، قال: دخلت على واثلة بن الأسقع وعنده قوم فذكروا عليّاً فلما قاموا قال لي: ألا أخبرك بما رأيت من رسول الله «صلى الله عليه وسلم»؟ قلت: بلى، قال: أتيت فاطمة «رضي الله عنها» أسألها عن علي، قالت: توجه إلى رسول الله «صلى الله عليه وسلم» فجلست أنتظر حتى جاء رسول الله «صلى الله عليه وسلم» ومعه علي وحسن وحسين «رضي الله عنهم» آخذ كل واحد منهما بيده، حتى دخل فأدنى عليّاً وفاطمة فأجلسهما بين يديه، وأجلس حسناً وحسيناً كل واحد منهما على فخذه، ثم لف عليهم ثوبه أو قال كساءً، ثم تلا هذه الآية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، وأهل بيتي أحق) (6).

5- أبو سعيد الخدري: أخرج روايته الطبري في تفسيره فقال: (حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا بكر ابن يحيى بن زبان العنزي، قال: حدثنا مندل، عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله: نزلت هذه الآية في خمسة؛ فيَّ وفي علي «رضي الله عنه» وحسن «رضي الله عنه» وحسين «رضي الله عنه» وفاطمة «رضي الله عنها» {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(7). .

2- الشبهة الثانية: دعوى أن آية التطهير من المتشابه وأن الإستدلال بها غير تام في ثبوت العصمة.

قال الدكتور: >عدم صلاحية الدليل آية التطهير للاستدلال على العصمة: إن قضايا الاعتقاد الكبرى ومهمات الدين وأساسياته العظمى لابد لإثباتها من الأدلة القرآنية الصريحة القطعية الدلالة على المعنى المطلوب كدلالة قوله تعالى : (اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) على التوحيد ، ودلالة (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ) ، على نبوة محمد ودلالة قوله تعالى : (أَقِيمُواْ الصَّلاةَ) على فرضية الصلاة ومشروعيتها ولايصح أن تؤسس هذه الأمور المهمة على الأدلة الظنية المشتبهة وإلا تطرق الشك إلى أساس الدين لقيامه على الظنيَّات وابتنائه على المتشابهات المحتملات وذلك منهي عنه بصريح قوله تعالى : (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) ، فاشترط الله لإقامة دينه الآيات المحكمات الواضحات التي لا اشتباه فيها ولااحتمال كالآيات التي استشهدنا بها على التوحيد والنبوة والصلاة وهي "أم الكتاب "..... <.

أقول: أنه لو راجع كتب الشيعة العقائدية والكلامية لوجد أنهم أقاموا أدلة عقلية قطعية كثيرة على إثبات عصمة الأئمة ونقلية مختلفة من الكتاب والسنة الصحيحة المتواترة ولم يقتصروا على هذه الآية القرآنية فقط, مع أن آية التطهير من المحكم وجميع الشبهات التي أقامها لرد دلالتها على العصمة مدخولة ومردودة كما سوف يتضح عند عرضها, وهي تدل على عصمة المخاطب بها دلالة صريحة كما بُيّن في وجه الإستدلال بها في الكتب الكلامية، وأنا أنقل كيفية الاستدلال بها بشكل مختصر, وحاصله أن الله أراد إذهاب الرجس عن أهل البيت ^ والرجس هنا مطلق الذنب وكل إثم وما يقع من الشيطان فيشمل حتى السهو كما صرح بذلك بعض المفسرين وأئمة اللغة, والإرادة هنا تكوينية لا تشريعية فهي واقعة لا محالة -وكل ذلك سوف يأتي توضيحه- فدلت دلالة واضحة أن الله طهرهم من كل ذنب وخطأ وهو معنى العصمة.

3- الشبهة الثالثة: إدعاؤه أن الرجس لا يدل على الأمور المعنوية كالذنب والخطأ: قال الدكتور:> عدم دلالة النص "الآية"على "العصمة وذلك يتبين من وجوه كثيرة منها :

اولاً: افتقاره إلى السند اللغوي :

فهذا تفسير لاينهض من الأساس لأنه ساقط لغوياً والقرآن نزل بلغة العرب فإذا كانت هذه الألفاظ "التطهير" و"إذهاب الرجس"تعني"العصمة" في هذه اللغة فيمكن حمل النص على مايقولون, ولكن … إذا كانت هذه الألفاظ لاتعني ذلك في اللغة التي نزل بها القرآن فماذا يكون الجواب ؟! والدليل على ما أقول ما يلي :

1- لاعلاقة للرجس بالخطأ في لغة القرآن .

فلا يعرف من لغة القرآن – التي هي لباب لغة العرب – إطلاق لفظ "الرجس" على الخطأ في الاجتهاد . فإن "الرجس" القذر والنتن وأمثالهما .

يقول الراغب الأصفهاني في "مفردات ألفاظ القرآن"مادة "رجس:

الرجس : الشي القذر يقال : رجل رجس ورجال أرجاس قال تعالى : (رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) … والرجس من جهة الشرع الخمر والميسر… وجعل الكافرين رجساً من حيث أن الشرك بالعقل أقبح .......إلى أن يقول الدكتور: والخطأ في الاجتهاد لايمكن أن يوصف بأنه قذر أو نجاسة أو نتن لذلك فهو ليس برجس, فمن قال : إن الآية نص في التنزيه من الخطأ فقد جاء بما لايعرف من لغة العرب . وإذن فالآية لا تنهض حجة على العصمة من الخطأ ، بل سقط الاحتجاج بها كلياً لأن العصمة لاتتجزأ فإذا لم يكن من وصف بالعصمة معصوماً من الخطأ فهو ليس معصوماً من الذنب لأنهما متلازمان .

2- " التطهير " و " إذهاب الرجس " لايعني العصمة من الذنب والدليل الواضح على هذا وروده في غير "أهل البيت " ....... وقال عن رواد مسجد قباء من الصحابة الأطهار: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) ، ولم يكن هؤلاء معصومين من الذنوب بالاتفاق .

وقال بعد أن نهى عن إتيان النساء في المحيض : (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)".

وقال عن أهل بدر وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ) .

والرجز والرجس متقاربان و"يطهركم" في الآيتين واحد ولم يكن هؤلاء معصومين من الذنوب .

وقال مخاطباً المسلمين جميعاً : (مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .

وقال عن المنافقين واليهود : (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) ".

وليس معنى اللفظ "أولئك الذين لم يرد الله أن يعصمهم من الذنوب" ولا يستقيم تفسير اللفظ "بالعصمة" إلا إذا كان المعنى كذلك ، وأيضاً فإن مفهوم لفظ الآية يستلزم أن يكون غيرهم من المؤمنين معصومين من الذنوب ولم يقل أحد بذلك, فالآية إذاً لا دليل فيها على "العصمة" بمعنييها ولله الحمد .<

لقد ادعى الدكتور أن الرجس في لغة العرب لا يطلق إلا على المستقذر المادي فمن ادعى أن الرجس يطلق على الأمور المعنوية المستقبحة والمستقذرة فقد جاء بما لا يعرف عن العرب, وإذا ثبت هذا فلا دلالة للآية على العصمة.

أقول: إن جملة من اللغويين ومن المفسرين ذهبوا إلى أن الرجس يطلق على غير المستقذر المادي وهو يحمل دلالات مادية ومعنوية مختلفة, وقد ورد ذكره في عشر آيات مختلفة وفسر بمعان متعددة, يجمعها القذر المادي والمعنوي, ونحن سوف نذكر آراء بعض اللغويين والمفسرين لتفنيد ما إدعاه.

أ- الرجس في بعض مصادر اللغة :

1- القاموس المحيط: الرجس بالكسر , القذر , ويُحرَّك. وتفتح الراء وتكسر الجيم , المأثم , وكل ما استقذر من العمل , والعمل المؤدي إلى العذاب , والشك , والعقاب , والغضب(8).

2- تاج العروس: قال الزجاج : الرجس : كل ما استقذر من العمل , بالغ الله تعالى في ذم هذه الأشياء , فسماها رجسا(9).

وعليه فقوله وكل ما استقذر من عمل يشمل الذنب والخطأ.

ب- الرجس عند بعض المفسرين:

1- بمعنى العذاب: قوله تعالى: {قد وقع عليكم من ربكم رجس} (الأعراف:71)، السَخَط، وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال الطبري والبغوي(10): الرجس هنا: العذاب. وهو بمعنى كلام ابن عباس رضي الله عنهما.

2- بمعنى العمل القبيح: في قوله تعالى: {فأعرضوا عنهم إنهم رجس} (التوبة:95)، بأنه: النجس. وفسره القرطبي و البغوي بأنه: العمل القبيح(11), وقال ابن كثير: خبثاء نجس بواطنهم واعتقاداتهم(12), وقال ابن عاشور: الرجس هنا: الخبث. والمراد: تشبيههم بالرجس في الدناءة ودَنَس النفوس. فهو رجس معنوي(13).

3- بمعنى الشك والضلال ومافي معناهما: في قوله تعالى: {فزادتهم رجسا إلى رجسهم} (التوبة:125)، الشر والضلال. قال ابن زيد في معنى الآية: زادهم شراً إلى شرهم، وضلالة إلى ضلالتهم. وقال ابن كثير: أي: زادتهم شكا إلى شكهم، وريبا إلى ريبهم, وقال الكسائي: أي: نتناً إلى نتنهم, وقال مقاتل: إثماً إلى إثمهم, وقال القرطبي: أي: شكاً إلى شكهم، وكفراً إلى كفرهم. وقال ابن عاشور: الرجس هنا: الكفر(14) والمعنى في الجميع متقارب. . .

الرجس في اية التطهير عند المفسرين:

1- روح المعاني: قال الألوسي في تفسيره روح المعاني: (والرّجس في الأصل الشيء القذر ... وقيل يقع على الإثم وعلى العذاب وعلى النجاسة وعلى النقائص والمراد هنا ما يعم ذلك) (15) .

2- المحرر الوجيز: قال ابن عطية الأندلسي: (والرجس اسم يقع على الإثم وعلى العذاب وعلى النجاسات والنقائص فأذهب الله جميع ذلك عن أهل البيت) (16)

3- تفسير البغوي: قال البغوي: أراد بالرجس الاثم الذي نهى النساء عنه, قاله مقاتل, وقال ابن عباس: يعني عمل الشيطان وما ليس لله فيه رضى, وقال قتاده يعني السوء, وقال مجاهد الرجس الشك(17).

4- التفسير الكبير: قال الفخر الرازي: ليذهب عنكم الرجس أي يزيل عنكم الذنوب(18).

5- فتح القدير: قال الشوكاني: المراد بالرجس الإثم, والذنب....ويدخل تحت ذلك كل ماليس لله فيه رضى(19).

6- قال السمعاني المتوفى سنة 489ه‍ في معنى الرجس في آية التطهير: > وأما الرجس فمعناه: ما يدعو إلى المعصية<, أنظر تفسير السمعاني ج4 ص282.

وعليه فقد ظهر خلاف ما ادعاه الدكتور في معنى الرجس, فإن الخطأ داخل في ما ليس لله فيه رضا, وفي عمل الشيطان, والنقائص وغيره من معاني الرجس .

وبذلك اندفع ايضا ما أورده من أن نفس التطهير لا يدل على العصمة لأن التطهير من الرجس الأعم من المادي والمعنوي الشامل للذنوب والأخطاء وكل ما ليس لله فيه رضا لا يعني إلا العصمة, وإنما نشأ وهمه هذا من ادعائه الفاسد وتفسيره الرجس بالأمر القذر المادي فقط, أما الآيات التي استدل بها على كون التطهير لا يدل على العصمة فصحيح لأنه ليس تطهيرا من الذنوب والمعاصي بل تطهير من الحدث والخبث, والآية الأخيرة معناها تطهير قلوبهم من الكفر بنور الإيمان وليست من العصمة في شيء.

4- الشبهة الرابعة: ادعاؤه أن معنى الأهل هم الأزواج, فالآية أذهبت الرجس عن زوجات النبي‘.

قال الدكتور:> لفظ "الأهل" في أصل الوضع اللغوي يعني زوجة الرجل ، ومن يجمعه وإياهم مسكن واحد وليس الأقارب بالنسب إلا على سبيل المجاز وإليك الدليل:

"فأهل" الشيء عموماً : أصحابه الملازمون له كما قال تعالى : (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ"، فأهل النار أصحابها وسكانها الملازمون لها كما قال تعالى : (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ)..... أهل البيت :

وأهل البيت سكانه الذين يجمعهم ذلك البيت كما قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا" ، وقالت أخت موسى لفرعون هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ).

أهل الرجل :

يقول الراغب الأصفهاني : أهل الرجل في الأصل من يجمعه وإياهم مسكن واحد ، ثم تُجُوَّزَ به فقيل أهل بيت الرجل لمن يجمعه وإياهم نسب .أ.هـ.......... الزوجة من (أهل بيت) الرجل بل هي أول عضو فيه :

فأهل الرجل زوجته بدليل اللغة والشرع والعرف والعقل ولا دليل آخر مع هذه الأربعة.... فتأمل كيف قال الرب : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) ثم قال : (أَهْلَ الْبَيْتِ) ثم قال (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ) وهذا يعني أن المقصود (بأهل البيت) في الآية نفس المخاطبات في الآية نفسها والآية التي بعدها فبيت النبي هو نفسه بيت زوجته ولتعدد هذه البيوت أضيف إليه بصيغة الجمع فقيل (بيوت النبي) وهي نفسها (بيوت أزواجه) بلا فرق .

وأهل هذا البيت هم النبي وأزواجه .

فبأي حق نخرج هذه الأزواج الطاهرات الطيبات أمهات المؤمنين من (أهل بيت) رسول الله ؟!<, ثم استدل بأدلة لغوية, وعرفية, وآيات قرآنية أن الزوجة من الأهل.

أقول: لا أحد ينكر أن الأهل لغة وعرفا وبما جاء في بعض الآيات يشمل الزوجات, إنما الكلام في المقصود من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا هل المقصود منهم المعنى اللغوي فيشمل الزوجات, أو أنه خاص ببعض أهل بيته, إذا أردنا معرفة ذلك علينا الرجوع الى السنة النبوية الصحيحة لنرى هل أنها أرادت من أهل البيت المعنى اللغوي العام؟ أو أنها حددتهم بأشخاص معينين؟ والمتتبع للنصوص الصحيحة من كتب أهل السنة يجد عشرات الروايات الصحيحة والحسنة أنها نزلت في خصوص الخمسة من أهل الكساء, والذي يدعي أنها عامة، عليه بيان ذلك بنصوص شرعية أنها شملت نساء النبي, فنساء النبي لم تدعي واحدة منهن أن آية التطهير نزلت في حقها أو أنها شملتها, بل إدعين خلاف ذلك، وسوف ننقل بعض الأحاديث الصحيحة على ذلك.

عائشة: فقد روى مسلم في صحيحيه عن عائشة أنها قالت: >خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ثم جاء الحسين فدخل معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}<(20).

-أم سلمة: فقد روى الترمذي في سننه بسند صحيح قال: >حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا سفيان، عن زبيد، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم جلل على الحسن والحسين وعلي وفاطمة كساءً ثم قال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي؛ أذهب عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا (فقالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟! قال: (إنك إلى خير) <(21).

وأخرج الحاكم النيسابوري في مستدركه: >حدثنا أبو بكر أحمد ابن سلمان الفقيه وأبو العباس محمد بن يعقوب قالا: حدثنا الحسن بن مكرم البزار، حدثنا عثمان بن عمر حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن شريك بن أبي نمر، عن عطاء بن يسار، عن أم سلمة قالت: في بيتي نزلت {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ... } قالت: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي وفاطمة والحسن والحسين فقال: (هؤلاء أهل بيتي)< (22).

قال الحاكم النيسابوري: (هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه), قال الذهبي في تلخيص المستدرك: (على شرط البخاري).

وأخرج أحمد بن حنبل في مسنده: >حدثنا عبد الله حدثني أبي، حدثنا عبد الله بن نمير قال: حدثنا عبد الملك - يعني ابن أبي سليمان - عن عطاء بن رباح قال: حدثني من سمع أم سلمة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيتها، فأتته فاطمة ببرمة فيها خزيرة، فدخلت عليه فقال لها: (ادعي لي زوجك)، قالت: فجاء علي والحسن والحسين فدخلوا عليه فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة، وهو على منامة على دكان تحته كساء له خيبري، قالت: وأنا أصلي في الحجرة، فأنزل الله عزّ وجل هذه الآية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}، قالت: فأخذ فضل الكساء فغشاهم به ثم أخرج يده فألوى بها إلى السماء ثم قال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا) قالت: فأدخلت رأسي البيت فقلت وأنا معكم يا رسول الله؟ قال: (إنك إلى خير، إنك إلى خير<(23).

قال: قال عبد الملك وحدثني أبو ليلى عن أم سلمة مثل حديث عطاء سواء. قال الشيخ شعيب الأرنؤوط عن هذا الحديث بإسناده الثاني - وهو الذي رواه أبو ليلى عن أم سلمة - أنه: (صحيح).

وأخرج عنها الطبراني في معجمه > أن الآية نزلت في بيتها {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} ورسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين، فأخذ عباءة فجللهم بها ثم قال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا) فقلت وأنا عند عتبة الباب: يا رسول الله وأنا معهم؟! قال: (إنك بخير وإلى خير)< (24).

وهكذا عشرات الأحاديث التي تثبت أن المراد بأهل البيت اصطلاح خاص فقط بالخمسة خص به الله ورسوله اهل الكساء، وليس المراد به مايشمل غيرهم حتى الزوجات، وإلا لما منع أم سلمة من الدخول في الكساء, وإنما جللهم رسول الله ‘ بالكساء لحصرهم وحتى لا يدعي غيرهم دخولهم في هذا البيت الخاص, ثم أنه في رواية الحاكم الصحيحة أنه لما نزلت الآية أرسل الى فاطمة وعلي والحسنان ^ فلو كان المراد عموم الأهل والأزواج فلا معنى لأن يرسل لهؤلاء دون غيرهم, ثم أنه لم يأتنا نص صحيح أن الآية نزلت أو شملت الأزواج, ولو كان كذلك لما فوتت أزواجه الإحتجاج بها، ولو كان كذلك لوصلنا.

حديثان يخرجان زوجات النبي من مصطلح أهل البيت:

الأول: أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار تحت قم 6151، قال: >حدثنا فهد حدثنا أبو غسان، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد، عن أم سلمة قالت: نزلت هذه الآية في بيتي: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}، فقلت: يا رسول الله ألست من أهل البيت؟ فقال: إنك على خير، إنك من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وفي البيت علي وفاطمة والحسن والحسين<.

الثاني: ما أخرجه مسلم في صحيحه في باب فضائل الصحابة عن زيد بن أرقم في ذيل حديث الثقلين, >... وفيه فقلنا من أهل بيته نساؤه؟ قال: لا، وأيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده....<, ثم عد بني هاشم وما يهمنا هو إخراج النساء من هذا الاصطلاح الخاص، أما إدخاله لمطلق بني هاشم فهو باعتبار تحريم الصدقة.

بعض تصريحات علماء أهل السنة في نزولها في الخمسة:

الطحاوي: قال في مشكل الآثار بعد ذكر حديث الكساء عن أم المؤمنين أم سلمة رضوان الله تعالى عليها: >فدل ما رويناه في هذه الآثار مما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة مما ذكر فيها لم يرد به أنها كانت ممن أريد به ما في الآية المتلوّة في هذا الباب، وأن المرادين فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة وحسن وحسين دون من سواهم<(25).

ابن حجر الهيثمي: في كتابه الصواعق المحرقة: >إن أكثر المفسرين على أنها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين ... <(26).

ابن عساكر الدمشقي بعد أن ذكره رواية أم سلمة قالت فيها: >وأهل البيت رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين) قال: (هذا حديث صحيح) ثم قال: (وقولها وأهل البيت هؤلاء الذين ذكرتهم إشارة إلى الذين وجدوا في البيت في تلك الحالة، وإلاّ فآل رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم من أهل البيت، والآية نزلت خاصة في هؤلاء المذكورين والله أعلم<(27).

العلامة الشوكاني - وهو يرد على من قال بأن آية التطهير في نساء النبي -: >ويجاب على هذا الجواب بأنه قد ورد الدليل الصحيح أنها نزلت في علي وفاطمة والحسنين< (28).

العلامة السمهودي:>وهؤلاء هم أهل الكساء فهم المراد من الآيتين (آية المباهلة والتطهير)< (29).

5- الشبهة الخامسة: قال الدكتور بعد أن أورد حديث الكساء من صحيح مسلم عن عائشة : >لو تمعنت في الأمر قليلاً لوجدت الحديث حجة لنا لا علينا ، إذ هو قرينة واضحة على أن المقصود بالآية أزواجه فلو كانت نازلة بخصوص أصحاب الكساء لما كان لدعاء النبي لهم معنى فما الداعي له والأمر محسوم من الأساس بدون دعائه ؟! وإذن دعاء النبي طلب من الله أن يشمل بكرامته من دعا لهم شفقة منه أن لا يكون حكم الآية عاماً لنزل في معرض الخطاب لأزواجه ، ولو كان النبي يقطع بدخولهم في حكمها أو كان مطمئناً إلى ذلك لما دعا لهم .<

أقول: القرائن والروايات المتعددة الكثيرة تدل أن رسول أن النبي‘ جلل الخمسة من أهل الكساء أكثر من مرة قبل نزول الآية وبعد نزولها, والمستشكل إنما نشأ توهمه هذا لعدم اطلاعه على الروايات الكثيرة في خصوص هذا الموضوع, فإنه اطلع على رواية صحيح مسلم وأشكل, وأنا أنقل روايتين الأولى أخرجها الطبري في تفسيره بسنده عن حكيم بن سعد قال: (ذكرنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند أم سلمة، قالت: فيه نزلت {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}، قالت أم سلمة: جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيتي فقال: لا تأذني لأحد فجاءت فاطمة فلم أستطع أن أحجبها عن أبيها، ثم جاء الحسن فلم أستطع أن أمنعه أن يدخل على جدّه وأمّه، وجاء الحسين فلم أستطع أن أحجبه عن جده وأمه، وجاء علي فلم أستطع أن أحجبه فاجتمعوا حول النبي صلى الله عليه وسلم على بساط فجللهم نبي الله بكساء كان عليه ثم قال: (هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا) فنزلت هذه الآية حين اجتمعوا على البساط، قالت: فقلت: يا رسول الله وأنا؟! قالت: فوالله ما أنعم، وقال: (إنك إلى خير)) (30).

الثاني: روى الحاكم في كتابه "المستدرك على الصحيحين في الحديث> عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب أنّه قال: لما نظر رسول الله (ص) إلى الرحمة هابطة قال: "أُدعوا لي، أُدعوا لي"، فقالت صفيّة: من يا رسول الله؟ قال: "أهل بيتي عليّاً وفاطمة والحسن والحسين"، فجيء بهم فألقى عليهم النبي (ص) كساءه ثمّ رفع يديه ثمّ قال: "اللّهمّ هؤلاء آلي فصلّ على محمّد وآل محمد" وأنزل الله عزّ وجلّ: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً )< (31).

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد.

5- الشبهة الخامسة: ادعاؤه أن الإرادة تشريعية وليست تكوينية فلا تتم العصمة, قال الدكتور: > الإرادة الشرعية والإرادة القدرية:من الأدلة على عدم دلالة الآية على العصمة أن "الإرادة" التي جاءت فيها شرعة لا قدرية وإليك البيان :

وردت "الإرادة" الإلهية في نصوص الشرع على ضربين :

الضرب الأول : الإدارة القدرية الكونية :

وهي المشيئة التي لابد من وقوع وتحقق ما تعلق بها من مراد الله ، ولا تلازم بين هذه الإرادة ومحبة الله وأمره الشرعي، فقد يريد الله ويشاء وقوع شيء يكرهه لحكمة يعلمها وبأسباب من خلقه أنفسهم كوقوع الزنا والكذب والكفر والله تعالى لا يحب ذلك ولا يأمر به شرعاً وإنما نهى عنه لكنه يقع بإذنه ومشيئته يقول تعالى : (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) "1" ، ويقول تعالى عن هذه الإرادة : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) "2"، (وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ) "3" ، (وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ) "4" ، فالله أراد غوايتهم مع أنه لم يأمر بها ولم يحبها فإنه كما أخبر عن نفسه : (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ) "5" ، لكن ما كل ماأراده الله وأحبه وأمر به شرعاً يقع ولاكل ما كرهه ونهى عنه لايقع وهنا يأتي دور الضرب الثاني من الأرادة وهي :

الإرادة الشرعية :

وهي بمعنى المحبة والقصد والأمر الشرعي الذي قد يقع وقد يتخلف مقتضاه كما في قوله تعالى (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) "6"، وهذه الإرادة يتوقف وقوع مقتضاها ومرادها على العبد فقد يقع إذا قام العبد بأسبابه الجالبة ، وقد لا يقع إذا قصر فيها فيقع ما يكرهه الله ولايريده أي لا يحبه ولا يأمر به ، ويحب الله شيئاً ويأمر به فلا يقع ، فالله تعالى يحب اليسر لكل خلقه وأراده وأمر به ، ويكره العسر لهم كما في الآية السابقة وكما في قوله : (يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ)"1" ، لكنه لا يتحقق في حق كثير من الناس الذين يشددون على أنفسهم ويثقلون عليها مع أنهم داخلون تحت خطابه تعالى : (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وقوله : (يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ) ، والله تعالى أراد من عباده جميعهم الطاعة بمعنى أمرهم بها واحب أن يفعلوها لكن محبوب الله ومراده هذا وأمره لم ينفذه أكثرهم ! في حين أنه لم يرد أشياء وكرهها لكنه واقعة رغم أن الله لم يردها : يقول سبحانه : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ) "2"، فوقع مرادهم وهو أخذ الفداء من الأسرى دون مراد الله وهو القتل .

ويقول أيضاً : (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) "3"، ويقول : (مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ)"4" ، فالحرج واقع للبعض رغم أن الله مايريده ، والتطهير لايتحقق للكل رغم أن الله يريده لهم جميعاً ، فالآية خطاب لجميع الأمة وهي تشبه تماماً (آية التطهير) إذ اللفظ نفسه يتكرر في الآيتين وهو في الإرادة الشرعية التي تتوقف على استجابة المخاطب وليس في الإرادة الكونية القدرية التي لابد من وقوعها .

وحتى يمكن حمل الآية على "العصمة" لابد أن تكون الإرادة فيها قدرية كونية من الله إذ العصمة التي أثبتوها إنما هي بجعل من الله لا بتكلف من العبد ، ولا دليل على ذلك أبداً ، فبالإضافة إلى كون اللفظ أصلاً في الإرادة الشرعية لوجود ما يشبهه وهو ليس في الإرادة القدرية ، فهناك قرائن تدل على أن الإرادة شرعية لاقدرية منها حديث الكساء :

إذ لو كانت إرادة الله قدرية لابد من وقوعها لما دعا لهم إذ هم أغنياء عن دعائه لكون الله تعالى شاء "عصمتهم" وقدرها حتماً فلا حاجة له .

وأيضاً فلو كانت الآية في "العصمة" وهم معصومون من الأصل فرسول الله يعلم ذلك ، فعلام يطلب لهم شيئاً حاصلاً من الأساس أي كما يقال : تحصيل حاصل ، وتحصيل الحاصل لغو ينبغي أن ننزه عنه رسول الله، وأيضاً يقال : هل عصمتهم قبل دعاء النبي أم بعده ؟ فإن كانت حصلت بدعائه أي بعده فهم غير معصومين من قبل ، وغير المعصوم كيف ينقلب معصوماً ؟ وإن كانت حاصلة بدون دعائه "أي قبله" فعلام دعا ؟! .: .....<

أقول: ادعى المستشكل هنا أن الإرادة تشريعية وليست تكوينية, ونحن إذا أردنا معرفة ذلك لابد من الرجوع الى حدهما, فقد ذكر العلماء أن الإرادة التكوينية هي كل ما تتعلق بالمريد, بمعنى أن الفعل المراد لا يكون معلقا على الغير, وهي في الله واقعة لا محالة, أما الإرادة التشريعية فهي كل إرادة يكون الفعل فيها معلقا على الغير, فإذا كانت كذلك فكما يحتمل فيها الوقوع يحتمل أيضا نقيضه, فهي قد تقع وقد لا تقع, وإذا رجعنا الى الآية الشريفة نجد أن الإرادة ليست منسوبة ومعلقة على الغير بل على ذات الباري عز وجل فلم يقل الله يريد الله منكم أن تذهبوا الرجس عن أنفسكم وتتطهروا حتى تكون تشريعية, بل قال إنما يريد الله أن يذهب عنكم, ومما لاشك فيه أنه علق الإرادة على ذاته ولم يعلقها على الغير فهي لا محالة تكوينية.

ثانيا: ما أجاب به علماؤنا المتقدمون كما في تفسير الطبرسي, أن الإرادة لو كانت تشريعية لكانت عبارة أخرى عن أمر تشريعي كالصلاة والزكاة وغيرهما, فيكون المراد من الآية الأمر بالابتعاد عن الأرجاس من الذنوب والمعاصي, لكن الأوامر والنواهي لا تختص بفئة من المسلمين دون غيرهم بل تكون عامة للجميع وفي الآية خصصها بأهل البيت, أولا بأداة الحصر إنما, وبالفعل المحذوف أو أداة النداء, ولا معنى لتخصيص الأمور التشريعية ببعض دون بعض من الناس.

ثالثا: لو كانت الإرادة تشريعية فلا معنى لدعاء النبي الله أن يذهب عن أهل بيته الرجس ويطهرهم تطهيرا, لأن معناه يصير دعاؤه لأهل بيته كي تشملهم الأوامر والنواهي التشريعية بالابتعاد عن الرجس, وهو لغو وتحصيل حاصل.

أما قوله لماذا دعا النبي لهم لو كانت الإرادة قدرية أي تكوينية فهم في غنى عن دعائه, فمردود؛ لتوقف كثير من الأمور على الدعاء, فالله قدّر هلاك قوم نوح × وكان ذلك متوقف على دعاء نوح عليهم, فعلى هذا المنطق هلاكهم بغنى عن دعائه فلماذا دعا عليهم, والأمثلة كثيرة.

أما إشكال اللَغوية وتحصيل الحاصل, فهو مردود إما بحمله على التأكيد, أو ليبين النبي‘ لأمته أن الله عصمهم وأخبر بعصمتهم وطهرهم تطهيرا, فتكون حجته في استخلافهم من بعده أبلغ.

إشكال ودفع:

قد يطرح البعض إشكالا على آية التطهير حاصله: أن الله أخبر في آية التطهير أن الله أذهب الرجس عن أهل البيت, والإذهاب فرع التلبس, وهذا دليل أنهم تلبسوا بالذنوب والمعاصي قبل نزول الآية والله طهرهم وأذهب عنهم ذلك الرجس, وهذا خلاف العصمة.

والجواب عليه:

أولا: أن اللام في الرجس ليست للعهد؛ أي ليست للرجس المعهود المتلبس به، بل هي للاستغراق؛ أي أن الله أذهب عنهم جميع أنواع الرجس وليس من الممكن التلبس بجميع أنواع الرجس.

ثانيا: أن الإذهاب هنا بنحو الدفع لا الرفع؛ بمعنى أن الله أذهب عنهم الرجس بمنعه من إصابتهم ابتداءً, لا أنه أصابهم ثم رفعه عنهم, قال الشيخ المفيد في المسائل العكبرية: > وليس يقتضي الإذهاب للرجس وجوده من قبل كما ظنه السائل ، بل قد يذهب بما كان موجودا ويذهب بما لم يحصل له وجود ، للمنع منه, والإذهاب عبارة عن الصرف ، وقد يصرف عن الانسان ما لم يعتره ، كما يصرف ما اعتراه, ألا ترى أنه يقال في الدعاء : " صرف الله عنك السوء "، فيقصد إلى المسألة منه تعالى عصمته من السوء ، دون أن يراد بذلك ، الخبر عن سوء به ، والمسألة في صرفه عنه, وإذا كان الإذهاب والصرف بمعنى واحد فقد بطل ما توهمه السائل فيه ، وثبت أنه قد يذهب بالرجس عمن لم يعتره قط الرجس على معنى العصمة له والتوفيق لما يبعده من حصوله به ، فكان تقدير الآية حينئذ : إنما يذهب الله عنكم الرجس الذي قد اعترى سواكم بعصمتكم منه ، ويطهركم أهل البيت من تعلقه بكم<(32).


أبو حسين الجزائري .


المصادر:

(1) سورة الأحزاب الآية 33.

(2) سورة البقرة الآية 19.

(3) شرح مشكل الآثار 2/ 235 رواية رقم: 761، وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: (إسناده صحيح).

(4) سنن الترمذي 5/ 663 رواية رقم: 3787، وقال الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/ 543 رواية رقم: 3787: (صحيح)،

(5) المستدرك على الصحيحين2/ 451 رواية رقم: 3558.

(6) مسند أحمد 4/ 107 رواية رقم: 17029وعلق الشيخ شعيب الأرنؤوط على هذه الرّواية بقوله: (حديث صحيح)

(7) تفسير الطبري22/ 6.

(8) القاموس المحيط : مادة ( رجس )

(9) تاج العروس : مادة ( رجس )

(10) راجع تفسير الطبري والبغوي, سورة الأعراف آية 71.

(11) راجع تفسير القرطبي والبغوي, سورة التوبة آية 95.

(12) راجع تفسير ابن كثير سورة التوبة آية 95.

(13) راجع تفسير ابن عاشور سورة التوبة آية 95.

(14) راجع تفسير ابن كثير, القرطبي, وابن عاشورسورة التوبة آية 125.

(15) راجع تفسير روح المعاني سورة الأحزاب آية 33.

(16) راجع تفسير ابن عطية الأندلسي سورة الأحزاب آية 33.

(17) راجع تفسير البغوي سورة الأحزاب آية 33.

(18) راجع تفسير الفخر الرازي سورة الأحزاب آية 33.

(19) راجع تفسير فتح القدير سورة الأحزاب آية 33.

(20) صحيح مسلم 4/ 1883 رواية رقم: 2424.

(21) سنن الترمذي 5/ 699 رواية رقم: 3871، وصححه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/ 570 رواية رقم: 3781.

(22) المستدرك على الصحيحين 8/ 158 رواية رقم: 4705.

(23) مسند أحمد بن حنبل 6/ 292 رواية رقم: 26551.

(24) المعجم الكبير للطبراني 23/ 333.

(25) تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار 8/ 476.

(26) الصواعق المحرقة 2/ 421.

(27) إرشاد الفحول صفحة 152.

(28) الأربعين في مناقب أمهات المؤمنين صفحة 106.

(29) جواهر العقدين صفحة 204، الباب الأول.

(30) تفسير الطبري سورة الأحزاب.

(31) مستدرك الحاكم على الصحيحين 3 : 147

(32) المسائل العكبرية ص 27

تعلیقات المشاهدین
الاسم:
البرید الإلکتروني:
* رای: